رسمها من خصومه واحدا بعد الآخر. تخلص من عمه عبد الله بن علي الثائر عليه بأبي مسلم الخراساني صاحب الدولة، ثم تخلص من أبي مسلم كما تخلص من زعماء آخرين توسم في بقائهم خطرا على دولته، وخلع ابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد وكان السفاح عهد اليه من بعد المنصور وعيسى هو الذي حارب له الأخوين محمدا وإبراهيم من أبناء العالم الامام فظفر بهما، فكوفئ بخلعه من قبل المنصور، وعهد بولاية عهده إلى ولده المهدي ثم إلى عيسى بن موسى هذا، والأقربون أولى بالمعروف، فكان من يبايعه يقبل يده ويد المهدي ثم يمسح على عيسى ولا يقبلها، نقل ذلك ابن تغرى بردي وأعقبه بقوله: ان البلاء والرياء قديمان، ثم أن المهدي خلع ابن عمه المذكور من ولاية العهد وعقدها لولده الهادي، وكانت أول ثورة على المنصور ثورة الأمير عبد الله بن علي عم الخليفة.
عبد الله بن علي يعد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بين أنبه الامراء العباسيين. وأبوه علي - وهو الذي انتشر الخلفاء العباسيون من نسله، من أوائل الهاشميين الذين رشحوا للخلافة بعد أن نضجت فكرة النورة على الأمويين واحلال الهاشميين محلهم في هذا الشأن، وقد أعقب أكثر من عشرين ولدا ذكرا، من أشهرهم: عبد الله هذا، وأخواه محمد وصالح ابنا علي، وكان لكثير من أولاده شأن في تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، الا أن الخلافة العباسية كانت من نصيب أولاد محمد بن علي وهو أكبر من أخيه عبد الله، ولم يبايع بالخلافة أحد من ولد عبد الله بن علي المذكور، ثم هو الأمير الذي ندبه السفاح لقتال مروان الجعدي فظفر به وبغيره من أمراء بني مروان في واقعة الزاب وعلى يده انقرضت دولتهم، من ثم استخلص الشام ومصر، وكان ساعده الأيمن في ذلك أخاه صالح بن علي الذي جهزه السفاح على طريق السماوة فطارد مروان وفلول الجيش الأموي إلى مصر وقتله في (أبي صير)، وهو - أعنى عبد الله بن علي - بعد ذلك عم السفاح، لذلك كان يحدث نفسه بالخلافة، بل كان يرى أنه أحق العباسيين بعد السفاح بان يكون خليفة. أحق من المنصور وأحق من سائر أمراء بني العباس، وكان يظن أن ابن أخيه - أي السفاح لا يعدوه في الوصية بولاية عهده لأنه نائبه في الجهاد وقيادة الجيوش وغزو الروم، ولكن السفاح عهد في مرض موته بولاية العهد إلى أخيه المنصور ثم إلى ابن أخيه عيسى بن موسى وما أن علم عبد الله بن علي ببيعة المنصور في العراق وكان - كما قلنا - يتحين الفرص للمطالبة بحقه في الخلافة، حتى جاهر بالدعوة إلى نفسه وعدل بجيشه إلى العراق، ولكن خانه الحظ وأخفق في الوصول إلى بغيته، وانتهت حياة بطل الزاب بالموت في سجن ابن أخيه المنصور بعد هزيمته في واقعه " نصيبين " على يد أبي مسلم الخراساني، وهكذا أخفق عبد الله بن علي في الوصول إلى غايته المنشودة، ومرد اخفاقه فيما نراه إلى قصر نظره وافتقاره إلى شئ كثير من الدربة والحنكة السياسية، وكان دون أخيه محمد بن علي ربان الدعوة العباسية في كل شئ. كان دونه في عقله الراجح وكان دونه في حزمه وخبرته الواسعة، وقد ارتكب في دعوته إلى نفسه أغلاطا فظيعة أمر بقتل عدد كبير من الخراسانيين كانوا في جيشه لتوهمه بميلهم إلى أبي مسلم الذي ندب لقتاله.
وهم أيضا أن يفتك ببعض القحاطبة وهم من أشهر القواد في جيشه. وكان جل جيشه الباقي مؤلفا من أهل الشام الذين غلبوا على أمرهم في واقعة الزاب ولا بد لنا من القول: أن المنصور اضطرب الاضطراب كله في بدء هذه الحركة التي قام بها عمه حتى أنه هم بالخروج إلى مناجزته بنفسه، وكان لا يرى من بعده أهلا للقيام بحرب عبد الله الا أبا مسلم الخراساني، ولذلك قال له: ليس لهذا الامر الا أنا أو أنت فامتثل أبو مسلم أمر المنصور في قمع هذه الثورة، ولم تقمع الا بعد أن مضت عليها أشهر غير قليلة، وهي أول حرب تقع في صدر الخلافة العباسية بين أهل خراسان بقيادة أبي مسلم وأهل الشام في الجزيرة بقيادة عبد الله بن علي المذكور.
دور الطالبيين ومن أهم الاحداث في خلافة المنصور، أن لم يكن أهمها، تلك الثورات التي قام بها فريق من زعماء الطالبيين. وقد بدأت في خلافة المنصور، ولم يكن لها أثر في أيام السفاح، بل لم يحدث في خلافته حدث على الطالبيين كما لم يحدث من الطالبيين حدث عليه. وقد أقضت هذه الاحداث مضاجع الخلفاء العباسيين الأولين، خصوصا وهم يعلمون أن النفوس في كثير من الأقطار إلى خصومهم أميل، وأن الرأي العام فيها يجنح إلى تفصيل آل أبي طالب على بني العباس، وكان المنصور يعرف أن لآل أبي طالب مكانة مكينة في نفوس الجمهور لا يحلم بها أكثر العباسيين، فكان يخشى - لذلك - جانبهم ومطالبتهم بحقوقهم التي يعضدهم كثير من الناس في المطالبة بها، ومن هنا جاء حقد المنصور على الطالبيين وقتل من قتل منهم من ساداتهم وأشياخهم الثائرين وعاملهم بقسوة منقطعة النظير. جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي ما نصه: وفي سنة 45 كان خروج الأخوين محمد وإبراهيم أبني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي، فظفر بهما المنصور فقتلهما وجماعة كثيرة من أهل البيت، فانا لله وانا اليه راجعون. وكان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبل ذلك شيئا واحدا. وقال أيضا:
" وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس، وقيل له:
ان في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: انما بايعتهم مكرهين، وليس على مكره يمين.
كانت ثورات الطالبيين مصدر قلق للطبقة الأولى من خلفاء بني العباس، وقد ألحقت بهم ما ألحقت من الأضرار البليغة بالأرواح والأموال، وقد حاول قوم من المحدثين المعنيين بالتاريخ أن يعدوا ثورات الطالبيين المتوالية على أبناء عمومتهم من بني العباس من جملة العوامل الفعالة في زوال الدولة العباسية، وفي هذا الرأي ما فيه من التكلف والمبالغة، لأن أخطر تلك الاحداث والبثوق التي انبثقت من ناحية الطالبيين انما وقعت في صدر الدولة العباسية وفي خلافة خلفائها الأول كالمنصور والمهدي والهادي وآخرين من القوم، وقد تمكن العباسيون الأولون من قمعها بشئ غير قليل من الغدو والقسوة والغلظة المتناهية على بني العمومة المذكورين، على اننا نرى أن شيوخ هذين البيتين من طالبيين وعباسيين عاشوا في صفاء تام في معظم عصور الدولة العباسية الأخيرة، وهي العصور التي منيت فيها الدولة المذكورة بالضعف الشديد. وفي هذه العصور أحدث منصب نقابة الطالبيين، وهو من المناصب الجليلة، وقد تولاه كثير من أشياخ الطالبيين ووجوه العلويين في العصور العباسية المذكورة، لذلك لا يصح القول اطلاقا بوجود علاقة أكيدة أو صلة مباشرة بين الثورات الطالبية المشار إليها وبين