انحلال الدولة العباسية.
وقد خصص أبو الفرج الإصفهاني الشطر الأكبر من كتابه المسمى: " مقاتل الطالبيين " بذكر زعماء آل أبي طالب الذين قتلوا في عصور الدولة العباسية عصرا عصرا، وقد ابتدأ بمن قتل منهم في خلافة المنصور الذي بز جميع العباسيين في ذلك، وقد حفلت عصورهم بهذه الاحداث إذا استثنينا عددا قليلا من خلفائهم كالسفاح والأمين والواثق بن المعتصم والمنتصر مالوا إلى محاسنة الطالبيين، وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب. قال أبو الفرج الإصفهاني: " بلغ منهم ما لم يبلغ أحد من الخلفاء قبله إلى أن قتل، فعطف عليهم ابنه المنتصر. كان يرى مخالفة أبيه المتوكل، ويظهر ذلك العطف على أهل البيت، فلم يجر عليهم مكروه في خلافته ".
كانت غلظة المتوكل في هذا الباب من الأسباب التي استحل بها ولده المنتصر هدر دمه كما هو معروف وكان المتوكل يكره كل عباسي قبله ظهر منه شئ من الميل إلى آل أبي طالب، وقد روى بعض المؤرخين أن الفقهاء أشاروا على المنتصر بقتل أبيه بعد أن حكي لهم عنه أمورا قبيحة.
ومن الخلفاء العباسيين الذين اقترن تاريخهم بشدة الوطأة على الطالبيين - كما جاء في كتاب المقاتل - المهدي والهادي والرشيد. والمستعين والمعتز والمهتدي وهكذا إلى خلافة المقتدر (295 320)، وحسبك أن مصارع الطالبيين في عصور الخلافة العباسية استوعبت جل كتاب المقاتل على ضخامة حجم الكتاب المذكور.
هذا ويحسن بالمؤرخ في هذا المكان الالمام بتاريخ هذا الخلاف أو النزاع بين أعيان هذين البيتين الهاشميين والوقوف على علله وأسبابه، وذلك على الصورة الآتية.
أصل الدعوة وصبغتها العامة كانت الدعوة إلى انتزاع السلطان من بني أمية هاشمية عامة في أصلها شارك فيها الهاشميون: الطالبيون منهم والعباسيون، وكانت الجمعيات السرية القائمة بها في أواخر عصور الدولة الأموية تتألف من وجوه العلويين و العباسيين، وممن حضرها السفاح والمنصور، وكانت الدعوة تبث أو تعلن بشكل يتناول الهاشميين جميعا، أي ان الدعوة كانت تعلن بالإضافة إلى (آل محمد أو أهل البيت). وقد بويع من بويع من وجوه الفاطميين بالخلافة سرا، بايعه العباسيون أنفسهم ومنهم السفاح والمنصور، فكانت الدعوة الهاشمية في أخريات عصور الدولة الأموية على جانب عظيم من التنظيم والقوة. وقد امتاز الدعاة الهاشميون بدهائهم وخبرتهم الواسعة.
اتجه الدعاة في أول الأمر بعد سبر أحوال بني العباس والمقارنة بينهم وبين الطالبيين إلى تفضيل الطالبيين، ولكن سادات أهل البيت من الطالبيين كانوا على جانب كبير من الورع فلم يعبأوا بالامر، وقد رفض بعضهم مقترحات الدعاة بشأن البيعة، وكان الأمويون على وشك الاستفادة من انقسام الهاشميين لولا أن الدعوة نمت نموا هائلا وسرت سرى النار في الهشيم، وذلك لملائمة البيئة إليها، وهي بيئة مشبعة بالسخط والثورة النفسية على سياسة الأمويين، وهكذا كانت الدولة من نصيب بني العباس.
هذا على أن بعض المؤرخين، وأكثرهم من الفرنجة المستشرقين يغمزون العلويين بالعجز عن انتهاز الفرص، وأن العباسيين فاقوهم بالحزم والمضاء وبعد النظر في هذه الناحية.
والواقع: ان الطالبيين أكرهوا على الثورة في كثير من الأحيان لشدة طلب العباسيين لهم، إلى أن صارت الثورة على حكم العباسيين شعارا لهم كما كانت من قبل على حكم الأمويين. وقد انتهز بعض الطالبيين والعلويين طغيان الموالي والأتراك في الدولة العباسية واضطراب الأمور فيها بعد ذلك فقاموا بثورات عدة وحاولوا الاستقلال بجزء من البلاد الخاضعة للدولة العباسية، وقد نجح بعض زعمائهم في انشاء دولة لهم بطبرستان، وهي الدولة الزيدية العلوية عاشت أكثر من مائة سنة.
عيسى ولي عهد السفاح عقد السفاح ولاية العهد قبيل وفاته سنة 136 لاثنين من العباسيين. أولهما أخوه المنصور وثانيهما ولد أخيه عيسى بن موسى المشار إليه، وقد أخذت البيعة للثاني وهو أمير على الكوفة، ويبدو لنا من التأمل في تاريخ الطبقة الأولى من بني العباس أن صلة عيسى بن موسى بأعمامه كانت صلة وثيقة منذ فجر شبابه. فإنه ترعرع في كنف أعمامه وهو يتيم في الحميمة. وصحبهم بعد ذلك في حلهم وترحالهم. وشاركهم في سرائهم وضرائهم صحب أعمامه في رحلتهم من الحميمة إلى الكوفة وفيهم السفاح والمنصور - بعد حبس إبراهيم الامام في " حران "، وهي رحلة اهتز لها كيان الدولة الأموية. لأن القوم خرجوا متكتمين خائفين إلى أوليائهم وأنصار دعوتهم في الكوفة. حيث ظهر أمرهم وخطب السفاح في الكوفيين وأخذت البيعة له في يوم مشهود.
يغامرون في طلب الحرية وتعد هذه الحركة أو الرحلة - ومردها إلى طغيان الأمويين واضطهادهم للهاشميين - من أشهر المغامرات الجريئة في التاريخ، إذ ما عسى أن تصنع شرذمة عدتها أقل من عشرين في قطر تسيطر عليه جيوش جرارة للأمويين يقودها رؤساؤهم وكبار رجالهم، فهذا مروان بن محمد يطل على العراق من " حران "، وهذا ابن هبيرة أمير العراقين من قبله يدافع عن واسط قلب العراق، ولكنها الحرية يعشقها أقوام، ومن عشق شيئا غامر في سبيله، ولكنه طلب السؤدد لا مناص من المخاطرة فيه، ومن طلب الحسناء لم يغله المهر.
غرابة المغامرة كانت حركة القوم من الحميمة يريدون الكوفة مدعاة للاستغراب، استغرب القيام بها فريق من مشيخة بني العباس أنفسهم، وفي مقدمتهم داود بن علي عم السفاح، وفي هذا الباب يقول هذا الشيخ العباسي الكبير للسفاح: " يا أبا العباس تأتي الكوفة وشيخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب ابن هبيرة بالعراق ".
الزعيم أبو سلمة أوقفناك - فيما مر - على رأي داود بن علي عم السفاح في رحلة ابن أخيه، و لننظر الآن إلى رأي الزعيم الكوفي المسؤول عن القيام بالدعوة الهاشمية في المشرق، وهذا الزعيم هو أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال أول وزير للسفاح في