ثانيا: قضية نشوء الباكستان:
إن أكبر زعماء المسلمين في الهند كانوا ضد تقسيم الهند ويكفي أن نذكر منهم: أبو الكلام آزاد، وفخر الدين علي أحمد، وذاكر حسين، والسيد محمد سعيد العبقاتي إلى عشرات أمثالهم. بل إن أبو الأعلى المودودي زعيم (الجماعة الإسلامية) ومؤسسها كان هو نفسه ضد التقسيم. هذه الجماعة المعروفة بنزعتها الإسلامية المتصلبة. وعند ما اختلف المودودي مع رئيس جمهورية الباكستان أيوب خان، كان مما عيره به هذا، انه كان معارضا لقيام الباكستان.
وقد استوضحت خلال زيارتي للباكستان عددا من زعماء الجماعة الإسلامية فأقروا بهذه الحقيقة.
وقد لعب الصراع على الزعامة لدى الزعيم محمد علي جناح دورا في التقسيم بالإضافة طبعا إلى الأسباب الرئيسية الأساسية التي أدت إلى التقسيم.
إذن ليس صحيحا - وهو أمر عاصرناه - أن مسلمي الهند " ظلوا في الحض حتى نشأت دولة الباكستان " كما يقول الأستاذ البستاني ليدعم ما انطلق به من مبدأ أصلا: وهو أن المسلمين لا يمكن أن يتعايشوا مع أحد...
إن تاريخ الشعوب لا تلخص أسبابه وتكشف مكنوناته ببعض كلمات. إن وراء تقسيم الهند ونشوء دولتين فيها، استعمارا دام عشرات السنين كان قوامه نهب الخيرات وإثارة الفتن وبذر الشقاق وتقسيم الشعوب وتركيب الدول.
ونحن نريد أن نسأل الأستاذ البستاني ما دام ان " المسلمين يسعون بمعونة مسلمي العالم ليكونوا دولة مسلمة " كما يقول فكيف خرجت بنغلادش المسلمة من دولة مسلمة بمعونة الهند؟ ان اهمال العوامل الاقتصادية والسياسية والقومية واللغوية في فهم مثل هذه الأمور هو تجريد بدائي للتاريخ. وعندما يرد ذلك للدين وللدين الإسلامي فقط لا يعود هذا تاريخا أبدا. وأخيرا لماذا لا تزال تحبو فكرة وحدة غرب أوروبا وليس فيها مسلمون وهي مسيحية من قرون عدة.
ثم إننا نسأل الأستاذ البستاني، من كان وراء الحركة الانفصالية التي قامت في بيافرا؟ ومن هو وراء الحركات الانفصالية القائمة الآن في فرنسا وإسبانيا وكندا؟ أ هم المسلمون؟... بل اننا نسأله من كان وراء انفصال لبنان عن سوريا؟!
ثالثا: قضية الشيخ لطف الله العاملي:
يزعم الأستاذ البستاني أن فخر الدين المعني أرسل الشيخ لطف الله العاملي من ميس الجبل إلى عند الشاه عباس في إيران، لينسق بين الشاه وفخر الدين في حربه مع العثمانيين.
والأستاذ البستاني حين يقول هذا القول فإنه يجهل حقيقة مهمة علماء جبل عامل في إيران في عهد الدولة الصفوية.
إن الهجرة العلمية العاملية إلى إيران هي أبعد عهدا وأسمى هدفا مما يظن الأستاذ البستاني. وإذا كان فخر الدين المعني هو الذي أرسل الشيخ لطف الله العاملي إلى الشاه عباس فمن الذي أرسل قبل ذلك المحقق الكركي الشيخ علي بن الحسين ابن عبد العالي المتوفى سنة 940 هجرية (1534 م) إلى الشاه إسماعيل والشاه طهماسب ومن الذي أرسل الشيخ حسين عبد الصمد المتوفي سنة 984 هجرية (1576 م) وولده محمد بهاء الدين؟ ومن الذي أرسل الشيخ إبراهيم البازوري والشيخ محمد علي خاتون والسيد بدر الدين الحسيني الأنصاري؟ ومن الذي أرسل المئات غيرهم من علماء جبل عامل؟
لقد كان سبب هذه الهجرة ان الدولة الصفوية قامت أول ما قامت على كيان عسكري بحت يرتكز إلى القوة المادية وحدها، فكانت بحاجة إلى العلماء والمثقفين فوجدت بغيتها في هذا الجبل العظيم (جبل عامل) الذي استمر تدفق علمائه ومفكريه إلى إيران طيلة قرنين حتى ظهر في الميدان العلماء الإيرانيون، وكان أبرزهم محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1106 ه (1699 م).
وقبل ذلك، قبل قيام الدولة الصفوية في عهد ملك خراسان علي بن المؤيد، حاول هذا الاستعانة بعلماء جبل عامل فأرسل يستدعي الشهيد محمد بن مكي المستشهد سنة 786 ه ولكن محمدا اعتذر لأن بلاده كانت في ذلك الوقت بأمس الحاجة إليه، إذ كان هو رأس النهضة العلمية العاملية التي تضعضعت بفعل احتلال الإفرنج (الصليبيين)، ثم انبعثت على يد محمد بن مكي. واكتفى محمد بن مكي بان ألف لعلي بن المؤيد كتاب (اللمعة) في الفقه وأرسله إليه.
إذن: 1 - مبدئيا ان العلاقات بين الشيعة وفخر الدين كانت على الأغلب سيئة، إن لم تكن عدائية ولم يكن من مبرر لهم حتى ولو كانوا مضطهدين من قبل الحكم العثماني لأن يوالوا فخر الدين، ولا لأن تقوم علاقة تحالف " مصيري " مع حكمه تستدعي " نشاطا دبلوماسيا دوليا " من قبل الشيعة لدعم فخر الدين.
2 - إن قضية الوجود الشيعي في ظل الحكم العثماني في العهد المعني لم تكن في لبنان مطروحة بالمعنى والمبنى اللذين يذكران للوجود المسيحي أو اللبناني.
فلم تكن لدى الشيعة آنذاك ولا الآن نزعات استقلالية ذات دور حضاري.
كما أنه من العبث الكلام عن علاقات آنذاك في هذا السياق بالذات بين شيعة جبل عامل وشيعة إيران. وبالتالي لا مجال للقول بتحرك شيعي متمثل في عالم كبير من علماء الشيعة في سفارة للأمير المعني. وهذا في رأينا مجرد كلام يراد به تركيب تاريخ " بالإبرة والسنارة ".
3 - لم يكن في مطلق الأحوال من الوارد لدى الشيخ لطف الله، شأنه في ذلك شأن علماء الشيعة آنذاك ان يقوم بمهمة مثل المهمة التي يذكرها الأستاذ البستاني وبخاصة لرجل مثل الأمير المعني. وكان أولئك العلماء من المنزلة والانشغال والعمل والترفع بحيث ان القصة الموردة لا تعدو أن تكون موضوعة.
هذا من الناحية المبدئية، أما من حيث سيرة الشيخ لطف الله العاملي نفسها، فهي تنفي النفي كله مثل هذه السفارة. فالشيخ لطف الله ليس هو الذي ذهب إلى جبل عامل، بل إن جده إبراهيم بن علي بن عبد العالي الميسي هو الذي ترك ميس وذهب من الجبل إلى إيران.
وقد كان له ولدان هما: الحسن وعبد الكريم، ولعبد الكريم ولد، هو لطف الله.
وعن تفاصيل حياته ننقل له عبارة واحدة وليراجع تفاصيل ذلك في ترجمة