- هذه الصفات يفصلها أبو الفرج في اخبار متفرقة فنعلم أنه " كان شاعرا مقدما عالما بلغات العرب، خبيرا بأيامها، وأنه كان راوية للشعر وللحديث.
وبلغ من مقدرته أنه كان يحفظ شعر نصيب أكثر منه، وأنه تنازع وحماد الراوية العلم بأيام العرب ورواية الشعر فأفحمه، وأنه كان عالما بالنجوم وقد مارس التعليم في جامع الكوفة الكبير.
وهذه الإمكانات والمهارات، كانت تترافق مع صفات كان يتحلى بها الشاعر تجل وتحترم. وليس سهلا على انسان عادي أن يصادق رجلا يختلف عنه مذهبا وعصبية... أما الكميت، فقد كان يصادق الطرماح رغم بعد المسافة بينهما، إنه نوع من الارتفاع بالنفس الانسانية. كما أن الشاعر كان مؤمنا يخاف الله لدرجة أن يندم على هجائه لبني كلب. ويقول: " فعممتهن بالفجور والله ما خرجت بليل قط إلا خشيت أن أرمى بنجوم السماء لذلك " وكان مخلصا لمذهبه. " إذ أظهر ما كتم العباد من الحق وجاد حين ضن الناس " دون أن يشاء مقابلا لذلك إلا الثياب تبركا.
الحق أن الكميت كان شاعر المعارضة أو داعيتها. وقد جهد في أن يحتل موقعه عن جدارة، وهو بهذا الجهد أصبح الرجل الملم بكل معطيات عصره السياسية والثقافية. بكل ما تعنيه هاتين الكلمتين، والرجل المخلص العامل بكل ما يستطيع على نشر مذهبه.
الظلم والتشويه رغم هذا لم يقدر للكميت أن ينجو من ظلم وتشويه نالا من أمثاله من الشعراء، فهو عندهم أصم، برغم أنه كان معلم أولاد وطالب غريب...
هذا قليل بالنسبة إلى مظاهر أخرى للظلم والتجني نلمسها في ما يلي: أهمل ابن سلام الشاعر ولم يتحدث عنه كما تحدث عن غيره من الشعراء، ولم يعامله الأصمعي بالمقياس نفسه الذي عامل به ابن أبي ربيعة وآخرين من المولدين.
قال الأصمعي: " الكميت بن زيد ليس بحجة لأنه مولد وكذلك الطرماح... " وقال: " وعمر بن أبي ربيعة مولد وهو حجة. سمعت أبا عمرو بن العلاء يحتج في النحو بشعره ويقول هو حجة. وفضالة بن شريك الأسدي وعبد الله بن الزبير الأسدي وابن الرقيات هؤلاء مولدون وشعرهم حجة... ". ومما يجدر ذكره ان الحكم ب " الحجة " كان امرا مهما جدا لرواية الشعر والاهتمام والاستشهاد به أيضا. المفضل كان يقول: " لا يعتد بالكميت في الشعر وقال: أنشدني أي معنى له حتى آتيك به من أشعار العرب ".
وابن قتيبة يقول عنه: "... فإنه يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود من شعره في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار عاجل الدنيا على آجل الآخرة ".
والجاحظ يصفه فيقول: " الكميت كان شيعيا من الغالية " ويصف شعره في مديح الرسول بأنه من الحمق كقوله: " إليك يا خير من تضمنت الأرض وإن عاب قولي العيب ". ونقل المرزباني في موشحه هذا الرأي فقال: " ولا يعيب قوله في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كافر بالله مشرك ".
وعابوا عليه أخذه من الشعر العربي القديم واستفادته من القرآن حتى أن ابن كناسة حاول أن يضع مؤلفا في سرقاته من القرآن وغير القرآن.
أما عن تأثير شعره فيقول أحمد الهاشمي: " لشعره من التأثير السياسي والمذهبي أثر سئ شتت شمل الوحدة العربية ".
هذه عينات لآراء ومواقف سببها، كما يرى د. ن. القاضي بحق، أن هؤلاء كانوا متأثرين في أحكامهم بأمرين أساسيين الأول مذهب الشاعر الديني والسياسي والثاني اتجاه شعره المخالف للقدماء، إذ طبقوا عليه مقاييسهم المتعارف عليها في المدح والهجاء، في حين كان شعر الكميت يفترض نظرة خاصة جديدة لشعر خاص بصاحبه جديد. وربما كان هذا الرأي للقدماء:
" الكميت، وكان يعتمد إدخال الغريب في شعره وله في آل البيت الأشعار المشهورة، وهي أجود شعره ". أقرب الآراء إلى الحقيقة.
وإن كانت مواقف القدماء تجد تفسيرا لها في التعصب المذهبي دينا وفنا، أو في الخوف من " السلطان "، فما هو تفسيرنا لرأي الدكتور شوقي ضيف التالي: "... ومعنى ذلك أن قصيدته المذهبة كتبت لخدمة الشيعة عن طريق تشتيت الجماعة الاسلامية وبث الفرقة بينها، أكانت الجماعة الاسلامية تنتظر مذهبة الكميت كي تتفرق! أ لم تكن " الاستراتيجية " الأموية قائمة على رد الناس إلى أنسابهم؟ أي على التمزيق القبلي، أ لم نر نماذج من هذه السياسة في الفصول السابقة؟ أيحتاج الدكتور إلى التذكير بنقائض العصر الأموي!؟ والتي رأينا أن " السلطان " الأموي كان يتبناها. ثم أن مذهبة الكميت أتت انعكاسا لواقع كان مستفحلا، وكان في الوقت نفسه السبب في فشل ثورة اسلامية، هذا الفشل وملابساته جعلا الكميت يستجيب لرجاء عشيرته ويجيب شاعرا طالما هجا قومه وأفحش وما كان يجيبه لأنه كان مهتما بأمور أخطر، ولكن الواقع هذا، والذي كان نتيجة للتطور الذي ساق الأمويون إليه الجماعة الاسلامية، أضاع أموره وجره إلى المستنقع الذي سرعان ما خرج منه وندم على الارتماء فيه ردحا بسيطا من الزمن.
الجديد في شعر الكميت وليد تجربته الخاصة كان شعر الكميت تعبيرا عن موقف املاه عليه موقعه، وكان يريد منه تأدية مهمة منوطة به. وكان من الضروري أن يتأثر هذا التعبير بشروط تتعلق بالنشر والمنافسة والاقناع والتعبئة النفسية، عبر استخدام وسائل خاصة. وقد لاحظ معظم من درس شعر الكميت تميز شعره، فوصفه القدماء بالخطب.
" جاء حماد الراوية إلى الكميت فقال: اكتبني شعرك: قال: أنت لحان ولا اكتبك شعري "... فقال له: " وأنت شاعر؟ انما شعرك خطب ". وقال بشار: " الكميت خطيب وليس بشاعر ". وقال الجاحظ: " ومن الخطباء الشعراء الكميت بن زيد الأسدي وكنيته أبو المستهل ". وقال: " ان للخطبة صعداء وهي على ذي اللب أرمى، الكميت وكان خطيبا ".
والدكتور عبد القادر القط يرى في شعر الكميت ما يلي: " والحق أن ما يبدو جدلا سياسيا في مثل هذه الأبيات هو في حقيقته ألصق بما يمكن أن نسميه " بالاستهواء الخطابي " الذي يحيل الخطيب فيه الفكرة إلى احساس بوسائل الخطابة المعروفة من تكرار أو سخرية أو تأكيد أو اتجاه إلى عاطفة السامع ومحاولة إثارة وجدانه قبل اقناع عقله ".
" وقد عرف الكميت بأنه كان يحسن الخطابة ولا شك أن هذه الموهبة تبدو جلية في شعره السياسي بوجوه فنية كثيرة بعضها يتصل ببناء القصيدة وتسلسل