وكل بالليل نسخا، وقوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 781) نسخا، وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي، فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه، فأي معنى لنسخه، وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه، وما ذكروه تخصيص، وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص، بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة. وأما المعتزلة فإنهم حدوه: بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه، لولاه لكان ثابتا، وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط، وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود فإن قيل تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه: الأول: أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له، والثابت لا يمكن رفعه، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه، فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء. الثاني: أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه. الثالث: أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه، فلو نهى عنه لادى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال. الرابع: أن ما أمر به أراد وجوده، فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها. الخامس: أنه يدل على البداء، فإنه نهى عنه بعدما أمر به، فكأنه بدا له فيما كان قد حكم به وندم عليه. فالاستحالة الأولى: من جهة استحالة نفس الرفع، والثانية: من جهة قدم الكلام، والثالثة: من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا، والرابعة: من جهة الإرادة المقترنة بالامر، والخامسة: من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده. والجواب عن الأول: أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد، إذ لو قال قائل: ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم، والمعدوم لا حاجة إلى إزالته، والموجود لا سبيل إلى إزالته، فيقال: معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر، فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام، فإن البيع سبب للملك مطلقا، بشرط أن لا يطرأ قاطع، وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة، ونعقل أن نقول: بعتك وملكتك أبدا، ثم نفسخ بعد انقضاء السنة، وندرك الفرق بين الصورتين، وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه، والثاني: وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع، فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر، وبهذا يفارق النسخ التخصيص، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض، والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه، ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكار معنى النسخ. وأما الجواب عن الثاني: وهو استحالة رفع الكلام القديم فهو فاسد، إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام، بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام
(٨٧)