في ملك اليمين، فقالا: حرمتهما آية وحللتهما آية، أما على مذهبنا في حمله على البيان ما أمكن ليس أيضا أحدهما، بأولى من الآخر ما لم يظهر ترجيح، وقد ظهر فنقول: حفظ عموم قوله: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * أولى لمعنيين: أحدهما: إنه عموم لم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه، فهو أقوى من عموم تطرق إليه التخصيص بالاتفاق إذ قد استثنى عن تحليل ملك اليمن المشتركة والمستبرأة والمجوسية والأخت من الرضاع والنسب وسائر المحرمات أما الجمع بين الأختين فحرام على العموم. الثاني: أن قوله: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * (النساء: 32) سيق بعد ذكر المحرمات وعدها على الاستقصاء إلحاقا لمحرمات تعم الحرائر والإماء، وقوله: * (أو ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 3) ما سيق لبيان المحللات قصدا بل في معرض الثناء على أهل التقوى الحافظين فروجهم عن غير الزوجات والسراري فلا يظهر منه قصد البيان. فإن قيل: هل يجوز أن يتعارض عمومان ويخلوا عن دليل الترجيح؟ قلنا: قال قوم: لا يجوز ذلك، لأنه يؤدي إلى التهمة ووقوع الشبهة لتناقض الكلامين، وهو منفر عن الطاعة والاتباع والتصديق، وهذا فاسد بل، ذلك جائز ويكون ذلك مبينا لأهل العصر الأول، وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب الدليل من وجه آخر من ترجيح أو نتخير، ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا فليس فيه محال، وأما ما ذكروه من التنفير والتهمة فباطل، فإن ذلك قد نفر طائفة من الكفار في ورود النسخ حتى قال تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) * (النحل: 101) الآية، ثم ذلك لم يدل على استحالة النسخ.
الفصل الثاني في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص وقد اختلفوا في جوازه فقيل: لا يجوز ذلك، لان فيه الباسا وتجهيلا، ونحن نقول: يجب على الشارع أن يذكر دليل الخصوص إما مقترنا وإما متراخيا على ما ذكرناه من تأخير البيان، وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص، بل يجوز أن يغفل عنه، ويكون حكم الله عليه العمل بالعموم، وهذا القدر الذي بلغه لا يكلف ما لم يبلغه، ودليل جوازه وقوعه بالاجماع فإن من الأدلة المخصصة ما هي عقلية غامضة عجز عنها الأكثرون إلا الراسخون في العلم وغلطوا فيها، فالألفاظ المتشابهة في القرآن الموهمة للتشبيه بلغت الجميع والأدلة العقلية الغامضة لم ينتبه لها الجميع، ولم يرد الشرع صريحا بنفي التشبيه وقطع الوهم، وذلك سبب للجهل، والدليل عليه وقوع الجهل للمشبهة، فإن قيل: العقل الذي يدل على التخصيص عتيد لكل عاقل، فالحوالة عليه ليس بتجهيل، قلنا وأي شئ ينفع كونه عتيدا ولم يزل به جهل الأكثرين وكان يزول بالتصريح، والنص الذي لا يوهم التشبيه أصلا، احتجوا بشبهتين:
الأولى: إنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمعهم المنسوخ دون الناسخ، والمستثنى دون الاستثناء.
قلنا: ذلك جائز في النسخ، وعليه العمل بالمنسوخ إلى أن يبلغه الناسخ، وليس عليه إلا تجويز النسخ والتصفح عن دليله، فإذا لم يبلغه فلا تكليف عليه بما لم يبلغه، كما إذا عجز من معرفة التخصيص بعد البحث عمل بالعموم، وأما الاستثناء فيشترط إتصاله، فكيف لا يبلغه؟ نعم:
يجوز أن يسمعه الأول فينزعج عن المكان لعارض قبل سماع الاستثناء فلا يسمعه فلا يكون