الشرع لكان محالا بخلاف مذهب الجاحظ، وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير، كمسألة الرؤية، وخلق الأعمال، وخلق القرآن، وإرادة الكائنات لان الآيات والاخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة، وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه السلام وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه، فكانوا فيه مصيبين ومعذورين، فنقول أن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لأن هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة، بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا، بل أحدهما، والرؤية محالا وممكنا أيضا، والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته، أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو، بخلاف الحلال والحرام، فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات، وإن أراد أن المصيب واحد لكم المخطئ معذور غير آثم، فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع، واتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الانكار عليهم، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه، فهذا من حيث الشرع دليل قاطع، وتحقيقه أن اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به جهل، والجهل بالله حرام مذموم، والجهل بجواز رؤية الله تعالى وقدم كلامه الذي هو صفته وشمول إرادته المعاصي وشمول قدرته في التعلق بجميع الحوادث، كل ذلك جهل بالله وجهل بدين الله فينبغي أن يكون حراما، ومهما كان الحق في نفسه واحدا متعينا كان أحدهما معتقدا للشئ على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا فإن قيل: يبطل هذا بالجهل في المسائل الفقهية وبالجهل في الأمور الدنيوية كجهل إذا اعتقد أن الأمير في الدار وليس فيها وأن المسافة بين مكة والمدينة أقل أو أكثر مما هي عليها، قلنا: أما الفقهيات، فلا يتصور الجهل فيها، إذ ليس فيها حق معين وأما الدنيويات فلا ثواب في معرفتها ولا عقاب على الجهل فيها، أما معرفة الله تعالى ففيها ثواب وفي الجهل بها عقاب، والمستند فيه الاجماع دون دليل العقل وإلا فدليل العقل لا يحيل حط المأثم عن الجاهل بالله فضلا عن الجاهل بصفات الله تعالى وأفعاله، فإن قيل: إنما يأثم بالجهل فيما يقدر فيه على العلم ويظهر عليه الدليل والأدلة غامضة والشبهات في هذه المسائل متعارضة، قلنا: وكذلك في مسألة حدوث العالم وإثبات النبوات وتمييز المعجزة عن السحر ففيها أدلة غامضة، ولكنه لم ينته الغموض إلى حد لا يمكن فيه تمييز الشبهة عن الدليل، فكذلك في هذه المسألة عندنا أدلة قاطعة على الحق، ولو تصورت مسألة لا دليل عليها لكنا نسلم أنه لا تكليف على الخلق فيها.
- مسألة (إثم المجتهد في الفروع) ذهب بشر المريسي إلى أن الاثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين، وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطئ قد يكفر كما في أصل الإلهية والنبوة، وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها، وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات، وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الأصم، ووافقه جميع نفاة القياس، ومنهم الامامية وقالوا: لا مجال للظن في الاحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما