تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٩ - الصفحة ٣٠٩
فإن الحياة التي يعدها الموجود الحي سعادة لنفسه وراحة لذاته إنما تكون سعادة فيها الراحة والبهجة إذا جرت على حقيقة مجراها وهو ان يتلبس الانسان بواقع آثارها من العلم النافع والعمل الصالح من غير أن يشتغل بغير ما فيه خيره ونفعه، فهذه هي الحياة التي لا موت فيها، والراحة التي لا تعب معها، واللذة التي لا ألم دونها، وهى الحياة في ولاية الله، قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يونس: 62.
وأما من اشتغل بالدنيا وجذبته زيناتها من مال وبنين إلى نفسها وغرته الآمال والأماني الكاذبة التي تتراءى له منها واستهوته الشياطين فقد وقع في تناقضات القوى البدنية وتزاحمات اللذائذ المادية، وعذب أشد العذاب بنفس ما يرى فيه سعادته ولذته فمن المشاهد المعاين ان الدنيا كلما زادت إقبالا على الانسان، ومتعته بكثرة الأموال والأولاد أبعدته عن موقف العبودية وقربته إلى الهلاكة وعذاب الروح فلا يزال يتقلب بين هذه الأسباب الموافقة والمخالفة، والأوضاع والأحوال الملائمة والمزاحمة، فالذي يسميه هؤلاء المغفلون سعة العيش هو بالحقيقة ضنك كما قال تعالى: (ومن اعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) طه: 126.
فغاية إعراض الانسان عن ذكر ربه، وانكبابه على الدنيا يبتغى به سعادة الحياة وراحة النفس ولذة الروح ان يعذب بين اطباق هذه الفتن التي يراها نعما، ويكفر بربه بالخروج عن زي العبودية ذ كما قال: (إنما يريد الله ليعذبهم بها وتزهق أنفسهم وهم كافرون) وهو الاملاء والاستدراج الذين يذكرهما في قوله: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدي متين): الأعراف: 183.
قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) إلى آخر الآيتين، الفرق انزعاج النفس من ضرر متوقع، والملجأ الموضع الذي يلتجأ إليه ويتحصن فيه، والمغار المحل الذي يغور فيه الانسان فيستره عن الانظار، ويطلق على الغار وهو الثقب الذي يكون في الجبال، والمدخل من الافتعال الطريق الذي يتدسس بالدخول فيه، والجماح مضى المار مسرعا على وجهه لا يصرفه عنه شئ، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم
(٣٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 314 ... » »»
الفهرست