الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٩٧
من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون. ووصينا الإنسان بوالديه حسنا
____________________
بالذم. لقاء الله مثل للوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخطه منها، فمعنى قوله (من كان يرجوا لقاء الله) من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من الله واليسر (فإن أجل الله) وهو الموت (لآت) لا محالة فليبادر العمل الصالح الذي يصلح رجاءه ويحقق أمله ويكتسب به القربة عند الله والزلفى (وهو السميع العليم) الذي لا يخفى عليه شئ مما يقوله عباده ومما يفعلونه فهو حقيق بالتقوى والخشية، وقيل يرجو يخاف من قوله الهذلي في صفة عسال:
* إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها * فإن قلت: فإن أجل الله لآت كيف وقع جوابا للشرط؟ قلت: إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت فكأنه قال - من كان يرجو لقاء الله - فإن لقاء الله لآت لأن الأجل واقع فيه اللقاء كما تقول: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة (ومن جاهد) نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه (فإنما يجاهد) لها لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمر الله عز وجل ونهى رحمة لعباده وهو الغنى عنهم وعن طاعتهم.
إما أن يريد قوما مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم: أي يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون: أي أحسن جزاء أعمالهم، وإما قوما مشركين آمنوا وعملوا الصالحات فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام. وصى حكمه حكم أمر في معناه وتصرفه، ويقال وصيت زيدا بأن يفعل خيرا كما تقول أمرته بأن يفعل، ومنه بيت الإصلاح:
وذبيانية وصت بنيها * بأن كذب القراطف والقروف كما لو قال أمرتهم بأن ينتهبوها، ومنه قوله تعالى - ووصى - بها إبراهيم بنيه - أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك وصيت زيدا بعمرو ومعناه وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك، وكذلك معنى قوله (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) وصيناه بإيتاء والديه حسنا أو بإيلاء حسنا: أي فعلا ذا حسن أو ما هو في ذاته حسن
(١٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 192 193 194 195 196 197 198 199 200 201 202 ... » »»