الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٤٤
وجئتك من سبأ بنبأ بيقين. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم.
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون.
____________________
قال:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ * يبنون من دون سيله العرما وقال:
الواردون وتيم في ذرى سبأ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس ثم سميت مدينة مأرب بسبأ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث كما سميت معافر بمعافر بن أد، ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله (من سبأ بنبأ) من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجئ مطبوعا أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء ههنا زائدا على الصحة، فحسن وبدع لفظا ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. والضمير في (تملكهم) راجع إلى سبأ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. وقيل في وصف عرشها كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شئ كما يكون لبعض أمراء الأطراف شئ لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم ومن نوكى القصاص من يقف على قوله - ولها عرش - ثم يبتدئ: عظيم وجدتها يريد أمر عظيم أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فر من استعظام الهدهد وعرشها فوقع في عظيمة وهى مسخ كتاب الله فإن قلت: كيف قال (وأوتيت من كل شئ) مع قول سليمان وأوتينا من كل شئ كأنه سوى بينهما؟ قلت:
بينهما فرق بين، لأن سليمان عليه السلام عطف على قوله على ما هو معجزة من الله وهو تعليم منطق الطير، فرجع أولا ما أوتى من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا وعطفه الهدهد على الملك، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد. فإن قلت: كيف خفى على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة وهى مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. فإن قلت: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، ومن أراد استقراء ذلك
(١٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 149 ... » »»