الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٤٣
لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين. فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به
____________________
حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه، فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شئ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال، فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: على به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها الله وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك على إلا رحمتني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت بلى قال: أو ليأتيني بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله أذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله تعذيبه: أن يؤدب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه.
وقيل كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل أن يلقى للنمل تأكله. وقيل إيداسه القفص، وقيل التفريق بينه وبينه إلفه، وقيل لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل لألزمنه خدمة أقرانه. فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع، وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصلح به وقرئ ليأتيننى وليأتينن والسلطان: الحجة والعذر. فإن قلت: قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد ومن أين درى أنه يأتي بسلطان حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كلامه إلى قولك ليكونن أحد الأمور، يعنى أن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادعاء دراية على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحى من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين فثلث بقوله - أو ليأتيني بسلطان مبين - عن دراية وإيقان (فمكث) قرئ بفتح الكاف وضمها (غير بعيد) غير زمان بعيد كقوله عن قريب، ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان، وليلعم كيف كان الطير مسخرا له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله تعالى (أحطت) بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة والإحاطة بالشئ علما أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شئ ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه. سبأ قرئ بالصرف ومنعه، وقد روى بسكون الباء. وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم: ذهبوا أيدي سبا، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر صرف،
(١٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 ... » »»