الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١١
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين. انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا)
____________________
وحسرتهم (فتنتهم) كفرهم، والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا دين آبائنا لا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به، ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا، فسمى فتنة لأنه كذب. وقرئ تكن بالتاء وفتنتهم بالنصب، وإنما أنث أن قالوا لوقوع الخبر مؤنثا كقولك: من كانت أمك وقرئ بالياء ونصب الفتنة وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ ربنا بالنصب على النداء (وضل عنهم) وغاب عنهم (ما كانوا يفترون) أي يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضى عليهم، وأما قول من يقول معناه:
ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله انظر كيف كذبوا على أنفسهم: يعني في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عي وإفحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه وهو ناب عنه أشد النبوة وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى - يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون - بعد قوله - ويحلفون على الكذب وهم يعلمون - فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا (ومنهم من يستمع إليك) حين تتلو القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته: يعني الكعبة، ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان: إني لأراه حقا، فقال أبو جهل: كلا فنزلت. والأكنة على القلوب والوقر في الآذان مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته، ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله وجعلنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: وفي آذاننا وقر، ومن
(١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 ... » »»