شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٣ - الصفحة ٢٥٨
(وقال بعضهم إنما معنى يعلم يفعل) فلو علم قبل الخلق أنه وحده لزم أن لا يكون وحده لما ستعرفه (فهو اليوم يعلم أنه لا غيره قبل فعل الأشياء) أي فهو اليوم بعد خلق الأشياء يعلم أنه كان واحدا قبل خلق الأشياء، لم يشاركه شيء في الوجود الأزلي لأن علمه بحدوث الأشياء يستلزم علمه بعدم مشاركة شيء معه في الوجود الأزلي وهذا معنى علمه بوحدته (فقالوا) لإثبات ما ادعوه من أنه لا يعلم في الأزل أنه وحده، وهذا القول بناء على ما زعموا من أن العالم من الصفات الفعلية الدالة على ثبوت صفة زائدة على الموصوف كما في الإنسان أو أن علمه بأنه وحده لا غيره يقتضي وجود ذلك الغير لأن تعلق العلم بلا شيء ممتنع. (إن أثبتنا أنه لم يزل عالما بأنه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليته) وذلك الغير هو العلم الذي هو فعله تعالى أو المعلوم، وهذا باطل لأنه متفرد بأزلية الوجود ولأن علمه بأنه لا غيره يستلزم جهله لثبوت الغير معه.
(فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني ما لا أعدوه إلى غيره؟ فكتب (عليه السلام) ما زال الله عالما تبارك وتعالى ذكره) أشار (عليه السلام) إلى المذهب الصحيح الذي لا يجوز لأحد التجاوز عنه وهو أنه تعالى كان في الأزل عالما بذاته وبأنه وحده لا غيره (1)، ولا بالأشياء قبل وجودها كليها وجزئيها، وحقايقها

1 - قوله «كان في الأزل عالما بذاته وبأنه وحده» قد مر سابقا أن الله تعالى منزه عن الزمان وأن أوهام الناس لا تقدر على تصور ذلك، وقد تكرر في أحاديث هذا الباب عدم جواز التغير في ذاته وعدم جواز الحدوث في علمه وقد ناسب هنا الإشارة إلى بعض أوهام الناس في الزمان لتوضيح المقام فنقول إن الأوهام العامية تزعم المكان والزمان شيئين ثابتين لا يتطرق احتمال العدم فيهما أي لا يمكن فرض عدم الفضاء وعدم الوقت حتى يكونا محتاجين إلى الإيجاد ولولا أن الموجود عندهم منحصر في الجسم لحكموا بأن المكان والزمان واجبا الوجود لكنهم يتلزمون بأمرين متناقضين فيقولون إن الزمان أمر موهوم يعنون ليس موجودا ثم يقولون لا يمكن فرض عدمه والتحقيق أن الزمان الموهوم متصور على وجهين: الأول: أن لا يكون له منشأ انتزاع مثل وجود ألف سنة في أن الزوال بين ما قبل الظهر وما بعده نظير تصور ألف فرسخ في نقطة في منتصف خط.
الثاني: أن يكون له منشأ انتزاع بأن يترتب حوادث متلاحقة سابقة ولاحقة فيتصور الذهن من ترتبها شيئا متصلا غير قار الذات فإن فرضنا ذات واجب الوجود المنزه عن التغيرات وحده قبل أن يخلق شيئا لم يمكن توهم زمان منتزع من التغير إذ لا تغير في ذاته تعالى ولا شيء آخر متغير حتى ينتزع الزمان منه وينطبق على استمرار ذات الواجب تعالى ولا يمكن حينئذ إلا توهم زمان لا يكون له منشأ انتزاع مثل توهم ألف سنة في آن واحد، فما يقال إنه مضى على ذات واجب الوجود أزمنة غير متناهية من غير أن يكون خلق شيئا وهم في وهم فيقال لهم هل هذه الأزمنة الغير المتناهية أمر محقق أو أمر موهوم فإن قالوا أمر محقق ناقضوا أنفسهم وأثبتوا قديما مع الله تعالى وإن قالوا أمر موهوم قلنا هو من الأمور الموهومة التي ليس لها منشأ انتزاع فإن قالوا نعم سلمنا لهم ذلك وقلنا إنه نظير تصور ألف سنة في آن الزوال ولا فائدة في البحث عنه، وإن قالوا لا بل هو أمر موهوم من منشأ انتزاع متغير قلنا ما هذا المتغير الذي ينتزع منه الزمان قبل خلقه الخلائق؟ إن كان هو الله تعالى الله عن التغير وإن كان غيره لم يكن غيره بحسب الفرض موجودا بعد فليس بين الله تعالى وأول المخلوقات الصادر عنه زمان البتة إلا ما هو موهوم بغير منشأ الانتزاع كما يمكن توهم زمان غير متناه بغير منشأ الانتزاع بين حركة اليد وحركة المفتاح وبالجملة فالزمان مخلوق ولم يكن قبل أن يخلق الله الأشياء زمان أصلا وربما التزم بعضهم بامكان انتزاع الزمان من الشيء الثابت المستمر كوجود الله تعالى وهذا يرجع إلى إنكار ما تواتر من الأحاديث في نفي الزمان عنه تعالى وما هو مرتكز في الأذهان من أن الزمان متغير ولا ينتزع إلا من متغير.
وقد أصر القاضي سعيد القمي (رحمه الله) في شرح التوحيد على دفع هذا الوهم بل حكم بكفر من يقول بانتزاع الزمان من ذاته تعالى فقط، وقد قلنا سابقا إنا لا نحكم بكفر من يعتقد شيئا يستلزم الكفر لزوما غير بين وهذه المسائل الدقيقة ليست مما يوجب إثباتها أو نفيها كفرا وتكليف الناس جميعا بإدراك الحق في هذه المسائل تكليف بما لا يطاق ولا ينافي ذلك إثبات تناهي الحوادث ببرهان التطبيق على ما ثبت في محله. (ش)
(٢٥٨)
مفاتيح البحث: الجهل (1)، الجواز (3)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»
الفهرست