الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٤٣٠
ثم يبدأ بالتفكير في حالته لمعرفة حقيقته وحكمه ونظامه، ثم إنه لإدراك كنه الشئ ومعرفة أحواله، يقتضي رؤيته في موضعه ووضعه الحقيقيين، بالنسبة لسائر الأشياء، وأن لا يقف النظر عند الجزئي مستقلا لمعرفة حقيقته وحده، بل يجب أن يجول النظر فيه وحوله، لأجل الكشف عن النواميس التي تربط هذا الجزئي بباقي ما حوله، وما هو مرتبط به من الكائنات الأخرى!
وأما الفكر، فهو ثاني العناصر لفعل " اقرأ "، وهو على حد قول الإمام الغزالي " مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وقد عرف أكثر الناس فضله ومرتبته، لكن جهلوا حقيقته وثمرته، ومصدره ومورده، ومجراه ومسرحه، وطريقته وكيفيته، ولم يعلم البعض فيما ذا يتفكر، وماذا يطلب، أهو مراد لعينه أم لثمرة تستفاد منه "، وقد كفلت آيات الذكر الحكيم بيان كل أولئك لمن يتدبرها!
والبحث في الفكر من أهم مواضيع علم النفس والأدب، فالفكر زناد المعرفة، ضياء للبصر، وضياء للفؤاد، به أنت ترى ما لم تكن تراه، وبه تميل إلى ما لم تكن جوارحك إليه تميل، قال وهب بن منبه " ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل "، ومن التفكير المخترعات والمكتشفات، والتعبير الذي جاءت به هذه الآية " اقرأ باسم ربك الذي خلق "، يفيد أن الله سبحانه وتعالى جعل مما خلق مجالا للنظر والتفكير والإدراك، وبالتالي إفادة المعرفة، والناس كما يقول ابن القيم " تتفاوت في مراتب الفهم في النصوص، فمنهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، منهم من يفهم عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف أن تضمه إلى آخر متعلق به، فتفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن، لا يتنبه له إلا النادر "!
فالله سبحانه وتعالى بدأ الهداية الإسلامية بهذه الأساليب الفكرية، ليتمكن الناس بها أيضا من المعرفة واستخراج حقائق الأشياء، لأنفسهم بأنفسهم
(٤٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 425 426 427 428 429 430 431 432 433 434 435 ... » »»