الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٤٣٥
فما هو واقع تحت حواس الإنسان، هو نتيجة الإبداع والخلق معا، ومن الصعب على الإنسان أن يتصور عدم الوجود بعد أن أدرك هذا الإبداع!
إذ هو يرى الوجود ويشعر بفضائه وما هو كائن في فضائه، ولكنه إذا تخيل فناء ما هو كائن في الفضاء - أي الموجود الحسي - فليس يسهل عليه تخيل فناء الفضاء ذاته، وضعف الإنسان حاصل في إدراك هذا الفناء الشامل، أي الرجوع إلى حالة العدم السابق على الإبداع - أي بمحو الموجود غير الحسي أيضا - وأنه بسبب هذا الضعف في الإدراك وعدم التنبه له، ضل كثير من الطبيعيين وغيرهم وبعدوا عن الحقيقة في معرفة الله تعالى وصفاته، ووصفوه بغير ما يليق بما يفيد الشرك به " سبحان ربك، رب العزة، عما يصفون "، " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد ".
وهذه الآية " اقرأ باسم ربك الذي خلق " توضح الصلة بين الخالق وبين المخلوقات، ببيان أن الكل من خلقه تعالى، كما تفصح عن صلة ما بين الإنسان وبين ربه، صلة مباشرة، لا وساطة فيها بينهما، فيكفر تفكيرا عقليا حرا في الكائنات، أما في الأديان الأخرى فإن رجال الدين يصدون الناس عن التفكير العقلي الحر، بل إنهم يصدون أنفسهم كذلك، ويعتبرون: ما وجدوا عليه آباءهم أسرارا لاهوتية وأمورا فوق طاقة الإنسان إدراكها!
وتفيد الآية كذلك أن العلم لا ينمو ولا يتطور إلا في جو من النظر الحر والاستقلال عن الاعتبارات الاعتقادية، وقد حاطه الإسلام بحوائط تحميه شر الجمود والرجعية، وحث القرآن على النظر في الكون إجمالا ثم تفصيلا، حتى قدح في الذين لم تؤثر فيهم آيات الكون، ولم تبعثهم على التفكير، فقال:
" وكأين من آية في السماوات والأرض، يمرون عليها، وهم عنها معرضون "، كما حض الناس على إيقاظ غريزة التأمل، فقال في آيات عدة: " لقوم يفقهون "، " لقوم يعلمون "، " أفلا يعقلون "، " أفلا يتفكرون "، " لعلهم يتفكرون "، لكل آية ما يناسبها في بحثها عن طريق التفقه أو العلم أو التفكير، وهكذا، وسرد من عجائب المخلوقات النباتية والحيوانية والأجرام السماوية ما يصعب
(٤٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 430 431 432 433 434 435 436 437 438 439 440 ... » »»