نور الأفهام في علم الكلام - السيد حسن الحسيني اللواساني - ج ١ - الصفحة ٤٣٠
والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله الشرب إخلاصا له بالربوبية ف (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [١٣] وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [١٤].
ثم قالت: أيها الناس اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أقول عودا وبدوا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [١٥] فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبلغ الرسالة، صادعا [١٦] بالنذارة [١٧] مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا ثبجهم [١٨]، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص (وكنتم على شفا حفرة من النار) [١٩] مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين (تخافون أن يتخطفكم الناس) [٢٠] من حولكم.
فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم [٢١] الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) [٢٢] أو نجم قرن الشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيد أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون عند القتال.
فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم [٢٣] لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم. هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) [٢٤].
فهيهات منكم! وكيف بكم؟ وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ (بئس للظالمين بدلا) [٢٥] (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [٢٦] لم تلبثوا إلا ريث [٢٧] أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإهماد سنن النبي الصفي، تسرون حسوا [٢٨] في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء، ونصبر منكم على مثل جز المدي ووخز السنان في الحشا، وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) [٢٩] أفلا تعلمون؟
بلى تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته.
أيها المسلمون، أأغلب على إرثي؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ (ولقد جئت شيئا فريا) [٣٠] أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول:
(وورث سليمان داود) [٣١] وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: (فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب) [٣٢] وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) [٣٣] وقال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [٣٤] وقال: (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) [٣٥] وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم هل تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكما مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة ما تخسرون، ولا ينفعكم إذ تندمون و (لكل نبأ مستقر) [37] (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) [37].
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار وقالت: يا معاشر الفتية، وأعضاد الملة، وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي، أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبي يقول: المرء يحفظ في ولده، سرعان ما أحدثتم! وعجلان ذا إهالة! ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون: ماتمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخطب جليل استوسع وهيه [38] واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت [39] النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم، هتافا وصراخا، وتلاوة وألحانا، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر