وفي جمادي الآخرة من سنة 371 استولى عضد الدولة على جرجان وطبرستان وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمگير وسبب ذلك أن فخر الدولة أخاه عندما انهزم لحق بقابوس والتجا إليه فأرسل عضد الدولة إلى قابوس بن وشمگير بأنه يبذل له الرغائب من البلاد والأموال والعهود في سبيل تسليم فخر الدولة له فامتنع قابوس من ذلك. فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة وسيره ومعه العساكر والأموال إلى جرجان فالتقى بقابوس بنواحي مدينة استراباد فاقتتلا من الصبح حتى الظهر فانهزم قابوس وأصحابه في جمادي الأولى ونظم قابوس بعد هزيمته أبياتا هي:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا * هل عاند الدهر الا من له خطر أ ما ترى البحر تطفو فوقه جيف * وتستقر بأقصى قعره الدرر فان تكن نشبت أيدي الخطوب بنا * ومسنا من توالي صرفها ضرر ففي السماء نجوم لا عداد لها * وليس يكسف الا الشمس والقمر وفي هذه السنة قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها. وفيها أفرج عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب وكان القبض عليه سنة 376 وكان سبب قبضه أنه كان يكتب عن بختيار كتبا في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة، وفيها ارسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه. فلما وصل إلى الملك قيل له: ليقبل الأرض بين يديه فلم يفعل فقيل لا سبيل إلى الدخول الا مع تقبيل الأرض فاصر على الامتناع فعمل الملك بابا صغيرا يدخل منه القاضي منحنيا ليرهم الحاضرين أنه قبل الأرض. فلما رأى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه فلما جاءه استقبل الملك وهو قائم فعظم عندهم محله.
وفي أوائل هذه السنة ارسل عضد الدولة ولده شرف الدولة أبو الفوارس إلى كرمان مالكا لها وذلك قبل أن يشتد به مرض الصرع الذي توفاه الله به.
وهكذا بلغت الدولة البويهية في عهد عضد الدولة أوج عظمتها وتمكن عضد الدولة بذلك من توحيد المملكة كلها تحت سلطانه مستوليا على جميع ما كان يسيطر عليه اباؤه وأعمامه من املاك وأضاف عليها الموصل والجزيرة وغيرهما.
أوصافه قال الخضري في محاضراته لم يقم في آل بويه من يماثل عضد الدولة جرأة واقداما وكان عاقلا فاضلا حسن السياسة كثير الإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محبا للفضائل واهبا باذلا في موضع العظاء مانعا في موضع الحزم ناظرا في عواقب الأمور وكان لا يعول في أموره الا على القضاة وهو أول أمير من امراء آل بويه خوطب بالملك والشاهنشاه وأول من خطب له على المنابر مع الخلفاء في بغداد وغيرها من البلدان الاسلامية. وأول من ضرب الطبل على بابه أوقات الصلوات الخمس.
وكان يلقب تاج الدولة وشمس القلادة ولقب في البداية بلقب عضد الدولة. كما أن الصابي أضاف كتابه التاجي في اخبار ومحاسن بني بويه إلى لقب تاج الملة وكان عضد الدولة امره بوضع مثل هذا التأليف.
وكان عضد الدولة معدودا من الفرسان والدهاة. وكان شديد العقوبة على الكبيرة والصغيرة، ونذكر على سبيل المثال الحوادث التالية المنقولة عنه:
1 أنه كان يحب جاريته فألهته عن تدبير المملكة فامر بتغريقها فأغرقت واستراح منها وتفرع لإدارة شؤون المملكة.
2 بلغه أن غلاما له اخذ لرجل بطيخة فضربه بسيفه فقطعه نصفين.
3 أنه كان بقصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة فامر أبا النصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بان يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام. قال أبو نصر فأنسيت ذلك أربعة أيام فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت أمس استهل الشهر والساعة نحمل المال وما ههنا ما يوجب شغل القلب فقال المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط. أ لا تعلم انا إذا اطلقنا لهم ما لهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم فإذا اخرنا ذلك عنهم حتى استهل الشهر الاخر حضروا عند عارضهم وطالبوه فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني فيعدهم ثم يحضرونه في اليوم الثالث ويبسطون ألسنتهم فتضيع المنة وتحصل الجرأة ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح.
4 وكان عضد الدولة لا يعول الا على الكفاة ولا يجعل للشفاعات طريقا إلى معارضة من ليس من جنس الشافع ولا فيما يتعلق به. حكى عنه أن مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله. فقال له ليس هذا من أشغالك انما الذي يتعلق بك الخطاب في زيارة قائد ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم. واما الشهادة وقبولها فهي إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه.
5 وكان عضد الدولة يخرج في ابتداء كل سنة شيئا كثيرا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى المستحقين. وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا.
علمه وأدبه وحبه لهما وللعلماء وكان عضد الدولة بالإضافة إلى كياسته السياسية وادارته الحكيمة فاضلا محبا للفضلاء والعلماء والأدباء لا يخلو مجلسه منهم، وكان يجلس معهم ويعارضهم في المسائل فقصده العلماء من كل بلد. وكان يحترمهم ويعظم بالأخص منهم الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان المتوفى 10 سنة 413 غاية التعظم وقد اخذ عنه العلم والفقه وكان يزوره في داره بموكبه العظيم. كما كان عضد الدولة معدودا من الفقهاء والمحدثين والشعراء والنحاة، وقد صنف له الرئيس أبو الحسن علي بن العباس المجوسي الفارسي المتوفي سنة 384 تلميذ أبي ماهر موسى بن سيار الطبيب كتاب كامل الصناعة الطبية المسمى بالملكي في الطب، وهو الكتاب الذي لزم الناس درسه إلى أن ظهر كتاب القانون لابن سينا فمالوا إليه وتركوا الملكي، كما صنف له الشيخ أبو علي الفارسي كتاب الايضاح والتكملة