تلك الممالك مشهور لا خفاء به وسعادته غالبة فإذا هم بأمر خدمته فيه وبلغته أقصى مراميه فعزم حينئذ على قصد العراق وسار إلى همذان واستقر العزم على أن يسير الصاحب وبدر بن حسنويه على طريق الجادة ويسير فخر الدولة وبقية العسكر على طريق الأهواز فلما سار الصاحب قيل لفخر الدولة إنه من الغلط مفارقة الصاحب لك لأنك لا تأمن أن يستميله أولاد عضد الدولة فيميل إليهم فاستدعاه اليه ليسير إلى الأهواز فسبق إليها وملكها ولحقه فخر الدولة بعد عشرين يوما وأساء السيرة مع جندها وضيق عليهم ولم يبذل المال فتخاذل الجند وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثرا بما قيل عنه من اتهامه. فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر والتقوا هم وعساكر فخر الدولة واتفق أن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة وقال بعضهم لبعض وإنما حملنا الصاحب لهذه البلاد طلبا لهلاكنا فانهزموا فقلق فخر الدولة من ذلك وكان قد استبد برأيه فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب فأشار ببذل المال واستصلاح الجند وقال له إن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند فان أطلقت المال ضمنت لك حصول اضعافه بعد سنة فلم يفعل ذلك وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز واتسع الخرق عليه وضاقت الأمور به فعاد إلى الري وعادت الأهواز إلى بهاء الدولة.
أخباره في معجم الأدباء: دخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه فقال له الصاحب أبو من؟ فأنشد الرجل:
وتتفق الأسماء في اللفظ والكنى * كثيرا ولكن لا تلاقى الخلائق فقال له اجلس يا أبا القاسم. وعلى الضد من هذا الرجل ما في معجم الأدباء أيضا أنه ورد إلى الصاحب رجل من أهل الشام فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال رسائل ابن عبدكان قال ومن؟ قال رسائل الصابي وغمزه أحد جلسائه ليقول ورسائل الصاحب فلم يفطن ورآه الصاحب فقال: تغمز حمارا لا يحس انتهى قال في اليتيمة وحدثني أبو نصر النمري بجرجان قال: سمعت القاضي علي بن عبد العزيز يقول: ان الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد وقد استعفيت يوما من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده * وأمده من فعلك الحسن فالعز مطلوب وملتمس * وأعزه ما نيل في الوطن ثم قال لي قد فرغت من هذا المعنى في العينية فقلت لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل * ألا ليت قومي يعلمون صنيعي فقال ما أردت غيره والأصل فيه قول الله تعالى يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. وفي اليتيمة سمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: كان الصاحب إذا شرب ماء بثلج أنشد على أثره:
قعقعة الثلج بماء عذب * تستخرج الحمد من أقصى القلب ثم يقول: اللهم جدد اللعن على يزيد.
وفي معجم الأدباء قال أبو حيان التوحيدي: كنت بالري سنة 358 وابن عباد بها مع مؤيد الدولة قد ورد في مهمات وحوائج وعقد لابن عباد مجلس جدل وكنا نبيت عنده في داره في باب شير ومعنا الضرير أبو العباس القاضي وأبو الجوزاء البرقي وأبو عبد الله النحوي الزعفراني وجماعة من الغرباء فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقعة فأحب أن يعرفه ويعرف ما عنده وكان الشاب من أهل سمرقند يعرف بأبي واقد الكرابيسي فقال له يا أخ انبسط واستأنس وتكلم فلك منا جانب وطئ وشرب مرئ ولن ترى الا الخير بما تقرف؟ فقال بدقاق قال تدق ما ذا؟ قال أدق الخصم إذا زاع عن سبيل الحق فلما سمع هذا تنكر وعجب لأنه مجئ ببديعة فقال دع هذا وتكلم قال أتكلم سائلا ما بي والله حاجة إلى مسالة، أم أتكلم مسؤولا فوالله إني لأكسل عن الجواب. أم أتكلم مقررا فوالله إني لأكره أن أبدد الدر في غير موضعه وإني لكما قال الأول:
لقد عجمتني العاجمات فلم تجد * هلوعا ولا لين المجسة في العجم وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم * وما للأعادي في قناتي من وصم قال له: يا هذا ما مذهبك؟ قال: مذهبي ألا أقر على الضيم ولا أنام على الهون ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي ولم تصل عصمته بعصمتي.
قال هذا مذهب حسن ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعا ويركب الهون سامعا ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوية في صدري لا أتقرب بها إلى مخلوق ولا أنادي عليها في سوق ولا أعرضها على شاك ولا أجادل فيها المؤمن. قال فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله وليس له مثل مظنون فضلا عن مثل متيقن. فقال له ابن عباد صدقت ولكن أمخلوق أم غير مخلوق فقال له إن كان مخلوقا كما تزعم فيما يضر خصمك وإن كان غير مخلوق كما يزعم خصمك فما يضرك فقال: يا هذا أبهذا تناظر في دين الله وتقوم على عبادة الله قال إن كان كلام الله نفعني إيماني به وعملي بمحكمه وتسليمي لمتشابهه وإن كان كلام غيره وحاش لله من ذلك ما ضرني فامسك عنه ابن عباد وهو مغيظ ثم قال أنت لم تخرج من خراسان بعد فمكث الرجل ساعة ثم نهض فقال له ابن عباد إلى أين يا هذا قد تكسر الليل بت ههنا فقال أنا بعد لم أخرج من خراسان كيف أبيت بالري وخرج فارتاب به ابن عباد فقفاه بصاحب له وأوصاه بان يتبع خطاه ويبلع مداه من حيث لا يفطن به ولا يراه فما زاع الرجل عن باب ركن الدولة حتى وصل ودخل في ذلك الوقت الفائت اليه فقيل لابن عباد ذلك فطار نومه وقال أي شيطان هبط علينا وأحصى ما كنا فيه بلسان سليط وطبع مريد وكان هذا الكرابيسي عينا لركن الدولة بخراسان فلذلك كان قريبا وكان أحد رجالاته.
وقال أبو حيان حدثنا ابن عباد يوما قال: ما فظعني الا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي فقصدني فاذنت له وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق فنظرت إلى حاجبي فقال له وهو يصعد إلي اخلع نعلك فقال ولم