فلما وصل إلى هذا الموضع من إنشاده قال له الصاحب قدك واشرأب ينظر إلى الزوايا وأهل المجلس قال البديع وكنت جالسا في زاوية فلم يرني فقال أين أبو الفضل فقمت قائما وقبلت الأرض وقلت أمرك فقال أجب عن ثلاثتك قلت ما هي قال أدبك وحسبك ومذهبك فأقبلت على الشاعر وقلت لا فسحة للقول ولا راحة للطبع إلا سردا كما تسمع وأنشدت:
أراك على شفا خطر مهول * بما أودعت رأسك من فضول تريد على مكارمنا دليلا * متى احتاج النهار إلى دليل ألسنا الضاربين جزى عليكم * وكان الجزي أولى بالذليل متى قرع المنابر فارسي * متى عرف الأغمن الحجول متى علقت وأنت بها زعيم * أكف الفرس أعراف الخيول فخرت بملء ء ماضغتيك فخرا * على قحطان والبيت الأصيل وحقك أن تفاخرنا بكسرى * فما ثور ككسرى في الرعيل فخرت بان ملبوسا وأكلا * وذلك فخر ربات الحجول تفاخرهن في خد أسيل * وشعر في مفارقها رسيل وانجد من أبيك إذا أثرنا * عراة كالليوث على الخيول وفي نسخة وكالنصول. قال فلما أتممت إنشادي التفت الصاحب فقال له كيف رأيت فقال لو سمعت به ما صدقت قال فاذن جائزتك جوازك إن رأيتك بعدها في مملكتي ضربت عنقك ثم قال لا أرى أحدا يفضل الفرس على العرب إلا وفيه عرق من المجوسية.
جلالة قدره وعظمه في النفوس في معجم الأدباء: ذكر الوزير أبو سعد منصور بن الحسين الآبي في تاريخه من جلالة قدر الصاحب وعظم محله في النفوس وحشمته ما لم يذكر لوزير قبله ولا بعده مثله قال: توفيت أم كافي الكفاة بأصبهان وورد عليه الخبر فجلس للتعزية يوم الخميس للنصف من المحرم سنة 384 وركب إليه سلطانه وولي نعمته فخر الدولة بن ركن الدين معزيا ونزل وجلس عنده طويلا يعزيه ويسكن منه وبسط الكلام معه بالعربية وكان يفصح بها فسمعته يقول حين أراد القيام أيها الصاحب هذا جرح لا يندمل. فاما سائر الأمراء والقواد مثل منوجهر بن قابوس ملك الجبل وفولاذ بن زماندار أحد ملوك الديلم وأبي العباس الفيروزان ابن خالة فخر الدولة وغيرهم من الأكابر والأماثل فإنهم كانوا يحضرون حفاة حسرا وكان كل واحد منهم إذا وقعت عينه على الصاحب قبل الأرض ثم والى بين ذلك إلى أن يقرب منه ويأمره بالجلوس فيجلس وما كان يتحرك ولا يستوفز لأحد بل كان جالسا على عادته في غير أيام التعزية فلما أراد القيام من المعزى بعد الثالث كان أول أمر أن يقدم إليه اللكا - نوع من الخفاف منوجهر بن قابوس فإنه قال يحمل إلى أبي منصور ما يلبسه فقدم إليه ومنعه من الخروج من الدار حافيا ثم قدم بعد ذلك الحجاب والحاشية اللكات إلى الجماعة فعتب فولاذ بن زماندار والفولاذ زماندارية عليه وقالوا ميز منوجهر من بين الجماعة فاحتج الصاحب ببيته العظيم ورئاسته القديمة انتهى وقال الثعالبي لم يكن الصاحب يقوم لأحد ولا يشير إلى القيام ولا يطمع منه أحد في ذلك كائنا من كان انتهى وفي معجم الأدباء عن تاريخ الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي المقدم ذكره أنه قال فيه فاما أمر الوزارة في أيام فخر الدولة فكانت أشهر من أن يحتاج إلى ذكرها فان أول وزرائه كافي الكفاة ولولا ما آل إليه أمر الوزارة في هذه الأيام واعتقاد من لم يعلم بحالها في ذلك الزمان بان الأمر لم يزل على ما نراه أو قريبا منه لأمسكنا عن ذكره ولكنا نذكر يسيرا من أحواله فان هؤلاء الذين ذكرناهم من أبناء الملوك و الأمراء والقواد وسائر من ساواهم من الزعماء والكبار مثل أولاد مؤيد الدولة وابن عز الدولة وعدد جماعة من أمراء الديلم وملوكهم وغيرهم ثم قال وكان في يد كل واحد من هؤلاء من الاقطاع ما يبلغ ارتفاعه خمسين ألف دينار وما دونها إلى عشرين ألف دينار ومن أكابر القواد ما يطول تعدادهم يحضرون باب داره فيقفون على دوابهم مطرقين لا يتكلم واحد منهم هيبة وإعظاما لموضعه إلى أن يخرج أحد خلفاء حجابه فيأذن لبعض أكابرهم ويصرفهم جملة فكان من يؤذن له في الدخول يظن أنه قد بلغ الآمال ونال الفوز بالدنيا والآخرة فرحا ومسرة وشرفا وتعظيما فإذا حصل في الدار وأذن له في الدخول إلى مجلسه قبل الأرض عند وقوع بصره عليه ثلاث مرات أو أربعا إلى أن يقرب منه فيجلس من كانت رتبته الجلوس إلى أن يقضي كل واحد منهم وطره من خدمته ثم ينصرف بعد أن يقبل الأرض أيضا مرارا، ولم يكن يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام ولا يطمع منه أحد في ذلك ونزل بالصيمرة عند عودته من الأهواز فدخل عليه شيخ من زهاد المعتزلة يعرف بعبد الله بن إسحاق فقام له فلما خرج التفت كافي الكفاة قال ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنة وإنما فعل ذلك به لزهده فإنه كان أحد ابدال دهره.
فاما العلم فقد كان يرى من هو أعلم منه فلا يحفل به وأما هيبته في الصدور ومخافته في القلوب وحشمته عند الصغير والكبير والبعيد والقريب فقد بلغت إلى أن كان صاحبه فخر الدولة ينقبض عن كثير مما يريده بسببه ويمسك عما تشره اليه نفسه لمكانه وقد ظهر ذلك للناس بعد موته وانبساط فخر الدولة فيما لم يكن من عادته فعلم أنه كان يذم نفسه لحشمته ثم كان يحله محل الوالد اكراما واعظاما ويخاطبه بالصاحب شفاها وكتابا فاما أكابر الدولة فكان الواحد إذا رأى أحد حجابه بل أحد الأصاغر من حاشيته فان فرائصه كانت ترتعد وجوانحه تصطفق إلى أن يعلم ما يريده منه ويخاطبه به وتظلمت له امرأة من صاحب لفولاذ بن زماندار وذكرت أنه ينازعها في حق لها فما زاد على أن التفت إلى فولاذ وكان في موكبه يسير خلفه فبهت وتحير وارتعد ووقف ولم يبرح إلى أن سار كافي الكفاة ثم ارسل مع المرأة من أرضاها وأزال ظلامتها ومثل هذا كثير يطول الكلام ببعضه فكيف أن يوضع فيه كله وأما أسبابه وحاشيته وهيبته ورتبته فان من أيسرها إن كان له عدة من الحجاب منهم من على مربطه ثلاثمائة رأس من الدواب أو ما يقاربها وكانت أحوال بلكا الحاجب تزيد من الخيل العتاق الموصوفة وكان لا يستغني عنها لأنه كان مكلفا بحفظ الطرق وطلب الأكراد وأهل العيث وصيانة السابلة انتهى وفي معجم الأدباء حدث عن أبي نصر بن خواشاده أنه قال: ما غبطت الصاحب أبا القاسم بن عباد فانا كنا مقيمين بظاهر جرجان مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية فدخل الصاحب إلى داره في البلد آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم وتحته دابة رهواء وقد أرسل عنانه فرأيت وجوه الديلم وأكابرهم من أولاد الأمراء يعدون بين يديه كما تعدوا الركابية وكان عضد الدولة يخاطبه خطابا لا يشترك معه غيره الا أنه كان يقل مكاتبته وكانت الكتب من عضد الدولة إنما ترد