امتلأت جورا في حكم الحجاج وزملاء الحجاج، ويقسم بالله على ذلك، ثم نعيش لنرى من لا يتورع عن القول في الحجاج: " انه نشر الأمانة والايمان ". ونكرر القول لهذا القائل: ان عمر بن عبد العزيز أوثق عندنا وعند غيرنا منك!
ولو أردنا نقل ما قاله خيار المسلمين في الحجاج لكان علينا ان نملأ مجلدا ضخما، ولضاقت بانقالنا الصفحات، فهذا مثلا (اليافعي) في كتابه (مرآة الجنان) يذكر موت الحجاج بهذا النص: " أراح الله المسلمين من الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة ".
ثم عندما يضطر لذكره في مكان آخر يقول: " فقصته السم القاتل والشؤم العاجل ". ثم يقول: " فأراح الله العباد والبلاد من الحجاج وما كان فيه من الافساد ".
ويقول في مكان آخر " أراد الحجاج ان يتشبه بزياد فأهلكه الله ودمره ".
ولا يمر اليافعي في كتابه (مرآة الجنان) بذكر الحجاج الا ويصفه بما هو فيه، ثم يقول: " يخبر عن نفسه ان أكبر لذته سفك الدماء ".
وقد اخترنا من بين المؤرخين مؤرخا واحدا ليكون نموذجا لما اتفق عليه المؤرخون في وصف الحجاج.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: " قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد الا وهو مفتقر إلى علمه ولم يسلطه الله بعده على قتل أحد ".
ذلك ان الحجاج لم يعش الا قليلا بعد قتله سعيد بن جبير.
وكان تفجع الإمام ابن حنبل على قتل سعيد هذا ما هو منصب على علم هذا الشهيد. فالفاجعة بقتل العلماء أعظم الفواجع.
ويزيد في فظاعة هذا الجرم ان المقتول كان في التاسعة والتسعين من عمره.
ونحن لا ندري أ نصدق اليافعي والإمام أحمد بن حنبل، أم نصدق كاتب المقال؟
ولكن الحقيقة اننا ندري!
نحن لا نريد ان نحدث الكاتب عن عشرات الألوف البريئة التي قتلها الحجاج صبرا، ولا عن عشرات الألوف من النساء والرجال التي وجدت في سجنه بعد موته.
لا نريد ان نحدثه عن ذلك، لأن هذا امر انساني، ويبدو جليا ان الانسانية لا تهم الكاتب، لذلك سننصرف عن الحديث الانساني إلى الحديث الاسلامي:
قال ابن سعد في كتاب الطبقات: " قال الحجاج هممت ان اضرب عنق ابن عمر ".
ثم لما استدعاه إليه خاطبه شاتما له:
" اسكت فإنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، يوشك شيخ ان يؤخذ فتضرب عنقه ".
ثم يذكر ابن سعد ان الحجاج ارسل اليه من اغتاله، ثم منع ان يدفن حيث أوصى.
عبد الله بن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. عبد الله بقية صحابة رسول الله: الهادئ الوديع الورع، ينحدر به الزمن إلى أن يقف بين يدي الحجاج ضارعا ذليلا يلتقى الشتيمة صابرا محتسبا.
والحجاج في ذلك عند الكاتب " رجل الأمن والأمان والأمانة والإيمان ".
ولو وجد الكاتب مشتقات أخرى لكلمة (امن) لأضافها إلى هذه الصفات الرائعة التي أضفاها على الحجاج جزاء ما لقي ابن عمر بن الخطاب منه، ولقاء ما أبداه من احتقار لذكرى الخليفة الراشدي الثاني!
وحقد الحجاج على أصحاب رسول الله لم يقتصر على عبد الله بن عمر، فقد امتدت الحياة بثلاثة من الصحابة إلى أن أدركت عصر الحجاج. وعوضا عن أن يكون هؤلاء الثلاثة في شيخوختهم الواهنة موضع الاجلال والتكريم، وان يرى الناس فيهم بقية ذلك السلف الصالح الذي رأى النبي وعاشره وتعلم منه فيتبركون بهم ويرفعون من شأنهم، عوضا عن ذلك، لم ير فيهم الحجاج إلا موضعا للاذلال، فقد قال في (أسد الغابة) ما يلي بنصه: " ختم الحجاج في عنق سهل الساعدي وأنس بن مالك وفي يد جابر بن عبد الله يريد إذلالهم "، وهؤلاء الثلاثة كانوا آخر من بقي من أصحاب رسول الله.
فإذا كانت الناحية الإنسانية لا تهم (الكاتب) فلا تروعه مجازر عشرات الألوف، أ فما كان يقتضي ان تهمه الناحية الإسلامية فيغضب لإهانة عمر بن الخطاب في شخص ابنه عبد الله، وقبل ذلك لإهانة الرسول في اشخاص أصحابه؟
ونريد ان نسأل الكاتب عن " الأمن والايمان والأمانة والأمان " فيما سنقصه عليه، وهو صورة عما كان يعانيه الشعب في ظل الحاكم الذي يعجب به هذا الكاتب.
احدث الحكام الذين تولوا حكم العرب والمسلمين منذ السنة (41) هجرية وظيفة جديدة لتثبيت حكمهم هي وظيفة (صاحب العذاب). ويغني ذكر اسم الوظيفة لمعرفة مهمة متولي امرها.
ولقد كان لعبيد الله بن زياد بن سمية (صاحب عذاب)، ومن قصصه ما رواه ابن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) وهو يتحدث عن الصحابي قيس بن خرشة القيسي: " أراد عبيد الله بن زياد تعذيبه لأنه كان قوالا بالحق، فلما أعد له العذاب مات قبل ان يصيبه شئ ".
وصاحب السيرة الحلبية يقول وهو يروي القصة: " ان عبيد الله بن زياد قال: اؤتوني بصاحب العذاب، فمال عند ذلك قيس فمات ".
لقد كان مجرد ذكر (صاحب العذاب) كافيا لأن يحدث صدمة في نفس الصحابي قيس بن خرشة فيموت في الحال.
وفي عهد الحجاج كان اسم (صاحب العذاب) (معد). ويروي صاحب كتاب (النجوم الزاهرة) ما جرى لحطيط الزيات الكوفي مع الحجاج:
وبعد ان يعدد المؤلف بعض صفات حطيط الزيات بقوله: " كان عابدا زاهدا يصدع بالحق "، يروي حوارا جرى بينه وبين الحجاج، كان فيه حطيط شجاعا صريحا لم يحد عن خطه المستقيم. فقال معد (صاحب العذاب): اني أريد أن تدفعه إلي فوالله لأسمعنك صياحه، فسلمه إليه فجعل يعذبه ليلته كلها وهو ساكت. فلما كان وقت الصبح كسر ساق حطيط، ثم دخل عليه الحجاج فقال له: ما فعلت بأسيرك، فقال: إن رأى الأمير ان يأخذه مني فقد أفسد علي أهل سجني، فقال الحجاج علي به، فعذبه بأنواع العذاب وهو صابر، فكان يأتي بالمسال فيغرزها في جسمه وهو صابر، ثم لفه في بارية وألقاه حتى مات.
أهذا هو (الأمن والأمان والأمانة والإيمان) التي يصف بها الكاتب صاحبه الحجاج؟
وإذا كان الكاتب لا تعنيه الناحية الإنسانية، ولا يؤثر فيه ذبح عشرات الألوف، أ فلا تؤثر فيه الناحية الاسلامية فيرثي لحال المسلم الذي وصف بأنه " عابد زاهد يصدع بالحق " ويتورع عن الثناء على من هذه افعاله مع المسلمين الزاهدين العابدين الصادعين بالحق.
ومن الطريف العجيب المحزن في الوقت نفسه ان يذكر الكاتب قصة يعلم هو قبل غيره أنها خرافة من الخرافات، لذلك يقرن روايته لها بقوله: (كما