مرعش سنة 332 ه (953 م) فيجرح في وجهه ويقع ابنه قسطنطين أسيرا فيمن يقع من الاسرى.
ويكبر الامر على برداس ويبلغ به الحزن مداه على أسر ولده، فلا يجد ملاذا لخيبته وأحزانه الا الترهب ودخول الدير.
ويأتي شقيقه نقفور فوكاس الثاني وهو أشرس الثلاثة واعتاهم، وقد كانت مطامحه متوازية مع شراسته وعتوه. وقد سبق له قبل توليه الملك ان قهر العرب حين كان قائدا عاما للقوات البيزنطية البرية والبحرية في الجبهة الغربية، فانتزع منهم جزيرة كريت سنة 350 ه (961 م).
ثم ازداد طموحا وثقة بالنفس بعد ان تولى الملك سنة 352 ه (963 م) بتزوجه ثيوفانو أرملة الإمبراطور رومانوس واعلان نفسه إمبراطورا. وكان شعاره الوصول إلى القدس، وحين تقدم ففتح طرسوس خطب على منبرها قائلا ان هذه البلدة هي التي كان تعوقه عن الوصول إلى القدس.
الأسطول الفاطمي وفي هذا الوقت كان على رأس الدولة الفاطمية خليفة خليق بالمهمة التي أعدتها له المقادير هو المعز لدين الله. وإذا كانت مهمة سيف الدولة الحمداني مقصورة على مقاتلة البيزنطيين برا فاكتفى باعداد الجيوش البرية، فأن مهمة المعز الفاطمي كانت مزدوجة إذ كان عليه ان يقاتل برا وبحرا، لذلك انصرف أول ما انصرف إلى اعداد أسطول ضخم جعل منه سيد البحر المتوسط، حتى لقد وصف أحد المؤرخين الوضع قائلا: " استطاع المعز بفضل أسطوله القوي ان يجعل غربي البحر الأبيض المتوسط بحيرة فاطمية ". وقد خص هذا المؤرخ غربي البحر، لأن الفاطميين لم يتقدموا بعد إلى الشرق ولم يصلوا إلى مصر وبلاد الشام. اما بعد ان وصلوا اليهما فقد أصبح هذا البحر كله بغربيه.
وشرقيه بحيرة فاطمية. كما امتد أسطولهم إلى البحر الأحمر، فكما كانت الإسكندرية ودمياط في مصر وعسقلان وعكا وصور وصيدا في الشام أهم المرافئ تتجمع فيها قطع هذا الأسطول في البحر الأبيض، كانت عيذاب أهم مرافئ البحر الأحمر.
وقد أثار هذا الأسطول شاعرية شاعر المعز، محمد بن هاني الأندلسي فأنطقها بقصيدة من عيون الشعر العربي الخالد، تحسب وأنت تقرأها انك امام وصف أسطول حربي معاصر، يقول فيها مخاطبا المعز بعد انتصار الأسطول في احدى معاركه الكبرى مع أسطول البيزنطيين:
لك البر والبحر العظيم عبابه * فسيان أغمار تخاض وبيد وما راع ملك الروم الا اطلاعها * تنشر اعلام لها وبنود عليها غمام مكفهر صبيره * له بارقات جمة ورعود مواخر في طامي العباب كأنه * لعزمك باس أو لكفك جود أنافت بها اعلامها وسمالها * بناء على غير العراء مشيد من الراسيات الشم لولا انتقالها * فمنها قنان شمخ وريود من القادحات النار تضرم للصلى * فليس لها يوم اللقاء خمود إذا زفرت غيظا ترامت بمارج * كما شب من نار الجحيم وقود فأنفاسهن الحاميات صواعق * وأفواههن الزافرات حديد لها شعل فوق الغمار كأنها * دماء تلقتها ملاحف سود ولابن هاني في وصف معارك هذا الأسطول الخالدات من القصائد التي نعتبر من أروع ما خلف الشعراء العرب من تراث شعري ملحمي، ولا يتسع المجال هنا للإفاضة في الحديث عنها ولكننا نكتفي بهذه الأبيات من قصيدة يخاطب فيها ابن هاني نقفور فوكاس بعد هزيمة أسطوله امام الأسطول الفاطمي:
وبعثت بالأسطول يحمل عدة * فأثابنا بالعدة الأسطول أدى الينا ما جمعت موفرا * ثم انثنى بأليم وهو جفول ومضى يخف على الجنائب حمله * ولقد يرى بالجيش وهو ثقبل ثم يموت بطل الحمدانيين بل بطل العرب في عصره سيف الدولة، فيموت بموته عنفوان الدولة، ولا يكون في خلفائه من له شئ من صفاته، وتنهار الجبهة الشرقية امام البيزنطيين، في حين ظلت الجبهة الغربية، جبهة الفاطميين قوية عنيفة بتوالي الخلفاء الأقوياء، وكانت قد بلغت في ذلك كل مبلغ بوصول الفاطميين إلى مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام.
الشعر في معارك الظفر من حسن حظ الأدب العربي ان قد رافق معارك الظفر التي قادها سيف الدولة الحمداني والمعز لدين الله الفاطمي شاعران عبقريان، ولن نقول عن المتنبي شاعر سيف الدولة شيئا، فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس في عصره وفي كل العصور حتى هذا العصر. ولكن لا بد لنا من كلمات قصار عن الشاعر الآخر شاعر المعز: محمد بن هاني الأندلسي الذي بلغ من تفاخر مواطنيه به سواء في منبته بالأندلس أو في مهجره بشمال إفريقية، ان سموه متنبي المغرب، كما سموا بعد ذلك ابن زيدون: بحتري المغرب، على عادتهم في محاولة مماشاة المشرق في كل شئ.
ولقد رأينا فيما تقدم نموذجا من شعر ابن هاني في وصف الأسطول، وكل قصائده في وصف المعارك لا سيما البحرية منها على هذا النسق المتألق المتوثب، حتى لقد كان جديرا بان يحمل اسم (متنبي المغرب)، والموضوع الذي حلق فيه متنبي المشرق هو الموضوع الذي حلق فيه متنبي المغرب، وهو المعارك الظافرة والبطولة العربية الهادرة.
وكانت شهرة ابن هاني قد امتدت إلى المشرق حتى وصلت إلى المتنبي نفسه، وقيل إن المتنبي كان عازما بعد فراق سيف الدولة على التوجه إلى المغرب فلما بلغته قصيدة لابن هاني مطلعها:
تقدم خطى أو تأخر خطى * فان الشباب مشى القهقرى عدل عن عزمه وقال: لقد سد علينا ابن هاني طريق المغرب. ولم يحدد المؤرخون الذين رووا هذا القول زمن هذا العزم، ولم يوضحوا هل كان قبل ذهابه إلى كافور أو بعد مفارقته له.
ومهما كان من امر فان القصة تدل على تهيب المتنبي من مجاورة ابن هاني.
ومن المؤسف ان الحياة لم تطل بابن هاني. فقد اغتيل وهو لم يتجاوز السادسة والثلاثين، وكان اغتياله وهو يهم باللحاق بالمعز إلى القاهرة. ولقد خسر الشعر العربي خسارة كبرى بموت ابن هاني قبل ان يصل إلى مصر، فلو وصلها ورافق المعز في حياته المصرية وما حفلت به من أمجاد لترك تراثا شعريا رائعا.
ولقد تألبت على ابن هاني قوى شتى عملت جاهدة على طمس اسمه وتشويه امره واخمال ذكره، ولقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد، ولست الآن في صدد الإشارة إلى هذه القوى.