ما بين ناشر حبل أمس أبرمه * تعد مسنونة من بعده البدع ويتجاوز الكثير من الأمور:
فقلت: كانت هنات لست أذكرها * يجزي بها الله أقواما بما صنعوا بغية إبلاغ رجال موقفا سياسيا يناقش أسسهم في اختيار الخليفة بأي حق بنوه يتبعونكم * وفخركم أنكم صحب له تبع...
وفيم صيرتم الاجماع حجتكم * والناس ما اتفقوا طوعا ولا اجتمعوا ويستطرد موضحا حججه، وينتهي إلى إكبار الإمام علي وبيان ما يتميز به من صفات وكفاءة:
صبرت تحفظ أمر الله ما اطرحوا * ذبا عن الدين فاستيقظت إذ هجعوا وكان، في مكان آخر، قد أشار إلى نهج الإمام في الحكم، ومن إشاراته:
- ثم قسمت بالسواء بينهم * فعظم الخطب عليهم وثقل - ولما امتطاها علي، أخو * ك، رد إلى الحق فاستثقلا، ويؤكد تأييده للحق:
جاهدت فيك بقولي يوم تختصم * الأبطال، إذ فات سيفي يوم تمتصع، هذا الحق الذي يمثل دنياه وآخرته:
هواكم هو الدنيا وأعلم أنه * يبيض يوم الحشر سود الصحائف قيل في مواقف مهيار الكثير، وقد أشرنا إلى بعض ما قيل، وكان مهيار يعرف ما يقال عنه، فكان يبتسم مشفقا على القائلين، ثم لا يلبث أن يخاطبهم محددا أسباب غيظهم ودوافعه طالبا من الله أن يكون الحكم فيلعن المداجي والكاذب ويعذبهما:...
من معشر لما مدحتك غظتهم * فتناوشوا عرضي وشانوا شانيا لما رأوا ما غاظ مني شنعوا * حاشاك أني قلت فيك مداجيا والله ينصب لعنه وعذابه * من قال فيك ومن يقول مرائيا 7 - هم الشعر ويتضح، من خلال هذا كله، ان مهيار لا يناهض العرب، كما أنه لا يناصر الفرس، وإنما يتخذ مواقف تنبثق من رؤية إنسانية للعالم والحياة واضحة وشاملة وعميقة، وترتكز رؤيته على إيمان عميق بمبادئ الاسلام الذي فك أسره وهداه وجعله إنسانا ذا قيمة ومعنى في هذا الوجود. وكان يريد لشعره أن يعادل هذه الرؤية فنيا وينقلها للآخرين، كما بدا لنا من تأكيده على عزمه نصرة مبادئه بشعره ولسانه.
وهذا يعني أن مهيار كان يرى أن للشعر تأثيرا في القلوب كبيرا قد يفوق تأثير السيوف القواطع:
إن اللسان لوصال إلى طرق * في القلب لا تهتديها الذبل الشرع وطالما كان للشعر مثل هذا التأثير في التغلغل إلى حنايا النفس الإنسانية، فإن الشاعر كان يجهد في صوغه شعرا جميلا مؤثرا يصفه بقوله:
وكالشجا قافية أسغتها * لو عارضت حنجرة البازل أط (أظ = أن).
ويتضح، من خلال قراءة نماذج من قصائد مهيار، أنه يملك مفهوما للشعر يرى إليه بوصفه التعبير الصادق الجميل الذي يجسد الرؤية وينقلها مؤثرا أشد تأثير. وانطلاقا من هذا الفهم للشعر كان مهيار يعنى بشعره عناية فائقة فيقول موجبا العناية به محددا مصدره:
وأحن عليه فإنه ولد أبوه قلب وأمه خاطر وإن يكن الشعر في مثل هذا الموقع، كانت العناية به واجبة، وقد يرقى حب صون الشعر وعدم امتهانه إلى مستوى الواجب الديني:
والشعر صنه، فالشعر، يحتسب الله، إذا لم يصن على الشاعر لا تمتهنه في كل سوق فقد * تربح حينا وبيعك الخاسر وينسجم مهيار مع فهمه هذا فيصون شعره عن الهجاء والمديح الكاذب ويحصر أغراض شعره في شؤون حياته الخاصة من تهنئة وعتاب وشكر ووصف مقدما لهذا كله بمقدمات وجدانية. وهو إن مدح أحدا فلا يقف على الأبواب ويمدح بما يراه مناقب تستاهل المديح، فيقول، على سبيل المثال في احدى قصائده المدحية:
ينصح الله والخلافة لا * يرفع في شهوة ولا يضع وزارة مذ أتيتها عاشت السنة وماتت البدع تشهد لي انها اليقين قضا * يا الله والمسلمون والجمع وقد جعله هذا الفهم للشعر: مصدرا ووظيفة وتأثيرا يبتعد عن التقليد وبخاصة عن المقدمات الطللية فنسمعه يقول فيها:
أجدك بعد أن ضم الكئيب * هل الأطلال إن سئلت تجيب ويبدو مهيار، في قوله هذا، وكأنه يحث على الانصراف إلى موضوعات الحياة وقضايا الإنسان.
إن اللافت في شعر مهيار، وقد أشرنا إلى ذلك غير مرة، ولعلنا لاحظناه في الأبيات التي كنا نثبتها استشهادا، هو فنية هذا الشعر المتمثلة في الصور وفي فنية الأسلوب وأناقته، نلمس هذه الفنية التي تبعد عن الصناعة البديعية وإن كانت تفيد منها صانعة ما يسمى ب " سحر الألفاظ " المتكون من تضادها وتآلفها وتكرارها وتناغمها وتكونها موسيقى داخلية تلحظ في الكثير من المقاطع والأبيات.
والواقع أن الأمثلة على ما نذهب إليه كثيرة جدا، ونكتفي هنا على سبيل التمثيل فقط، إضافة إلى معظم ما اقتبسناه استشهادا في ثنايا قراءتنا هذه، بذكر بعض الأبيات المشيرة إلى ما نذهب إليه ولنقرأ هذا البيت:
أما ترون كيف نام وحمى * عيني الكرى، فلم ينم ظبي الحمى!؟
ونتوقف أمام هذه الألف التي تتكرر وكأنها نفس طويل يتأوه أو كأنها امتداد مدى يرتسم في الأفق، بانتظار إطلالة، ويقوم الانتظار قلقا ومتقطعا، فلنذكر كي نحس بذلك إلى هذه المحطات التي نتوقف عندها في هذا المدى الممتد بعيدا، "... حمى "، "... الكرى "، "... الحمى "، انها محطات نرقب فيها اطلالة هذا الظبي في انتظار يطول فيه السهر والتأوه والتطلع إلى البعيد...