الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٥٠٤
فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين. ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين. من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين. ولقد اخترناهم على علم على العالمين. وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين، إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين.
____________________
ولاء، وهم بنو إسرائيل كانوا متسخرين مستعبدين في أيديهم فأهلكهم الله على أيديهم وأورثهم ملكهم وديارهم إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس، وفى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض " وقال جرير * تبكى عليك نجوم الليل والقمرا * وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى (فما بكت عليهم السماء والأرض) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه:
بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين:
يعنى فما بكى عليهم السماء وأهل الأرض (وما كانوا منظرين) لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر ولم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا (من فرعون) بدل من العذاب المهين كأنه في نفسه كان عذابا مهينا لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم. ويجوز أن يكون المعنى: من العذاب المهين واقعا من جهة فرعون. وقرئ من عذاب المهين، ووجهه أن يكون تقدير قوله من فرعون من عذاب فرعون حتى يكون المهين هو فرعون. وفى قراءة ابن عباس من فرعون لما وصف عذاب فرعون بالشدة والفظاعة قال من فرعون على معنى هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته، ثم عرف حاله في ذلك بقوله (إنه كان عاليا من المسرفين) أي كبيرا رفيع الطبقة ومن بينهم فائقا لهم بليغا في إسرافه أو عاليا متكبرا كقوله تعالى - إن فرعون علا في الأرض - ومن المسرفين خبر ثان كأنه قيل:
إنه كان متكبرا مسرفا. الضمير في (اخترناهم) لبني إسرائيل، و (على علم) في موضع الحال: أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا، ويجوز أن يكون المعنى: مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال (على العالمين) على عالمي زمانهم، وقيل على الناس جميعا لكثرة الأنبياء منهم (من الآيات) من نحو فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات العظام التي لم يظهر الله في غيرهم مثلها (بلاء مبين) نعمة ظاهرة لأن الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمصيبة، أو اختبار ظاهر لينظر كيف تعملون كقوله تعالى - وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم - (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش. فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية لا في الموت فهلا قيل: إن هي الا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين كما قيل - إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين - وما معنى قوله (إن هي إلا موتتنا الأولى) وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها
(٥٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 499 500 501 502 503 504 505 506 507 508 509 ... » »»