الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٦٣٨
إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون
____________________
واستكانة ولا كبر فيهم واليهود على خلاف ذلك، وفيه دليل بين على أن التعلم أنفع شئ وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى على القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدث بالعاقبة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني. ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن. وذلك نحو ما يحكى عن النجاشي رضي الله عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنهم عنده: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله ذلك عيسى بن مريم، وقرأ سورة طه إلى قوله وهل أتاك حديث موسى، فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس فبكوا. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله (للذين آمنوا)؟ قلت: بعداوة ومودة على أن عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشد العداوات وأظهرها، وأن مودة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودات وأدناها وجودا وأسهلها حصولا، ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودة بالأشد والأقرب. فإن قلت: ما معنى قوله (تفيض من الدمع)؟ قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لان الفيض أن يمتلئ الاناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها: أي تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعا. فإن قلت: أي فرق بين من ومن في قوله (مما عرفوا من الحق)؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق
(٦٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 633 634 635 636 637 638 639 640 641 642 643 ... » »»