الإمام الثاني عشر عليه السلام - السيد محمد سعيد الموسوي - ج ١ - الصفحة ١٩
لأن الله - وهو أجل من جميع المخلوقات - مختف عن أبصارنا كما يدل قوله عز وجل:
[لا تدركه الأبصار] (1)، وهو أقدر من الإمام على رفع الظلم لأنه مستجمع لجميع الصفات الكمالية، ومع ذلك كله لا يرفع الظلم والمناكير والفواحش من الناس، فيقال: - تقدس شأنه عن ذلك كله وتعالى -: ما الفائدة في أن الله تعالى مختف عاجز لا يقدر على رفع الظلم؟!
وأما ما قال: زعم الشيعة (1) أنه غاب في السرداب بسر من رأى والحرس عليه سنة مائتين واثنتين وستين و (2) أنه صاحب السيف القائم المنتظر قبل قيام الساعة، و (3) له قبل قيامه غيبتان إحداهما أطول من الأخرى، و (4) عندهم الإمامة محصورة في هؤلاء الاثني عشر، و (5) وهم الذين يوجبون العصمة لهم.
فنقول: إن مثل هذا الكاتب الكبير، لا يحسن به أن ينسى أو يتناسى ما يذهب إليه جماعته، وأهل مذهبه، فإن أعاظم علماء أهل السنة شار كونا في الأربعة الأخيرة.
وأما الزعم الأول: فلا أدري من أين أثبت أنه من رأي الإمامية ومذهبهم وهو ما لا يذهب إليه أحد منهم (*)، وعلى كل تقدير فليس هو من الأصول في المذهب، والشؤون الكبيرة من الباب، لأن الشأن كله في إثبات غيبته سواء كانت في السرداب أو غيره.

(١) سورة الأنعام.
* عقيدتنا في السرداب أقول: ليس هذا الرجل أول من نسب هذا الاعتقاد - وهو الاعتقاد بغيبة الإمام (ع) في السرداب في مدينة سامراء - إلى الشيعة الإمامية، بل قد سبقه في ذلك جماعة من علماء طائفته، كابن حجر، وابن طولون، وابن الوردي...
ولقد زاد بعضهم على هذا بقوله: أن الشيعة يعتقدون ببقائه (ع) في السرداب فينتظرون خروجه منه، ومن هؤلاء ابن تيمية في (منهاج السنة!!) ومن هؤلاء أيضا ابن خلدون حيث قال في (المقدمة ص ٣٥٢) عن الاثني عشرية ما نصه:
(يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم - وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه بالمهدي - دخل السرداب بدارهم بالحلة وتغيب حين اعتقل مع أمه وغاب هناك، وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا، ويشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي، وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمونه المنتظر لذلك، ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب وقد قدموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون ويرجئون الأمر إلى الليلة الآتية وهم على ذلك لهذا العهد) ولا يخفى ما فيه من أغلاط وافتراءات. وقد أخذ هذا آخرون ممن تقدم وتأخر منهم، حتى أن قائلهم قال: (أما آن للسرداب أن يلد الذي...
هذا، ومن العجيب أنهم لم يذكروا، أو ينوهوا عن حديث واحد جاء من طرق الشيعة مفيدا لهذا المعنى المدعى، أو اسم كتاب لعالم من علمائهم نقلوا عنه ذلك!
على أن هذا الاعتقاد لم يأت في أي كتاب للشيعة في أي موضوع كان، وهذه كتبهم منتشرة بفضل المطابع، متوفرة لكل أحد أضف إلى ذلك: أن علماء هذه الطائفة ينفون هذه النسبة، ويعدونها من جملة المفتريات التي لا أصل لها والموجهة إلى الشيعة الإمامية.
فقد قال الحجة الكبير الميرزا حسين النوري صاحب المستدرك وغيره من مصادر الحديث لدى هذه الطائفة، قال في (كشف الأستار ص): (نحن كلما راجعنا وتفحصنا لم نجد لما ذكروه أثرا، بل ليس في الأحاديث ذكر للسرداب أصلا...) وقال آية الله السيد صدر الدين الصدر - قدس سره - في كتاب (المهدي ص ١٥٥):
(وأما بعض ما يقوله في هذا الباب بعض عوام الشيعة ونسبه إلينا كثير من خواص أهل السنة فلا أعرف له مدركا، ولم أجد له مستندا).
وقال الشيخ الإربلي رحمه الله في (كشف الغمة ج ٣ ص ٢٨٣):
(والذين يقولون بوجوده لا يقولون أنه في سرداب، بل يقولون أنه موجود، يحل ويرتحل، ويطوف في الأرض...) وقال شيخنا الحجة المجاهد الشيخ عبد الحسين الأميني في (الغدير ج ٣ ص ٣٠٨ - ٣٠٩) في دحض مفتريات القصيمي صاحب كتاب (الصراع بين الإسلام والوثنية) قال ما نصه:
(وفرية السرداب أشنع وإن سبقه إليها غيره من مؤلفي أهل السنة لكنه زاد في الطمور نغمات بضم الحمير إلى الخيول وادعائه اطراد العادة في كل ليلة واتصالها منذ أكثر من ألف عام. والشيعة لا ترى أن غيبة الإمام في السرداب ولا هم غيبوه فيه ولا أنه يظهر منه، إنما اعتقادهم المدعوم بأحاديثهم أنه يظهر بمكة المعظمة تجاه البيت، ولم يقل أحد في السرداب: أنه مغيب ذلك النور، وإنما هو سرداب دار الأئمة بسامراء، وأن من المطرد إيجاد السراديب في الدور وقاية من قايظ الحر، وإنما اكتسب هذا السرداب بخصوصه الشرف الباذخ لانتسابه إلى أئمة الدين وأنه كان مبوأ لثلاثة منهم كبقية مساكن هذه الدار المباركة، وهذا هو الشأن في بيوت الأئمة عليهم السلام ومشرفهم النبي الأعظم في أي حاضرة كانت، فقد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
وليت هؤلاء المتقولين في أمر السرداب اتفقوا على رأي واحد في الأكذوبة حتى لا تلوح عليها لوائح الافتعال فتفضحهم فلا يقول ابن بطوطة في رحلته ٢ ص ١٩٨:
أن هذا السرداب المنوه به في الحلة، ولا يقول القرماني في أخبار الدول: أنه في بغداد، ولا يقول الآخرون: أنه بسامراء. ويأتي القصيمي من بعدهم فلا يدري أين هو، فيطلق لفظ السرداب ليستر سوأته...) فعلم أنه لا دليل لما ذكر السويدي وغيره، ولا مستند لهم في هذه النسبة لا في حديث من الأحاديث، ولا في كلام لواحد من العلماء، وناهيك بهؤلاء النافين أئمة نياقد، وأعلاما محيطين بالأخبار والآثار.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الأمر بالعكس من ذلك، فلقد أرسله بعض علماء أهل السنة إرسال المسلم، مما يدل على أنهم هم القائلون به.
ومن هؤلاء: الحافظ السيد جمال الدين الشيرازي صاحب (روضة الأحباب) حيث قال - في عبارته الآتية في الكتاب - ما ترجمته (قد غاب في سرداب في سر من رأى).
ومنهم: قاضي القضاة ابن خلكان حيث قال بترجمة الإمام الحسن العسكري (ع) في (وفيات الأعيان ج 1 ص 372) (وهو والد المنتظر صاحب السرداب).
ومنهم: ابن الصباغ المالكي حيث حكى القول بغيبته (ع) في السرداب من غير رد عليه. كما سيأتي في الكتاب.
ومنهم: الحافظ الكنجي الشافعي حيث قال في (البيان) ما نصه:
(وأما الجواب عن أفكارهم بقاؤه في سرداب من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه فعنه جوابان:
أحدهما: بقاء عيسى (ع) في السماء من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، وهو بشر مثل المهدي (ع)، فكما جاز بقاؤه في السماء - والحالة هذه - فكذلك المهدي (ع) في السرداب.
فإن قلت: إن عيسى (ع) يغذيه رب السماء من خزائن غيبه.
قلت: لا تفنى خزائنه بانضمام المهدي (ع) إليه في غذائه.
فإن قلت: إن عيسى خرج عن طبيعته البشرية.
قلت: هذه دعوى باطلة، لأنه تعالى قال لأشرف الأنبياء: قل إنما أنا بشر مثلكم فإن قلت: اكتسب ذلك من العالم العلوي.
قلت: هذا يحتاج إلى توقيف ولا سبيل إليه.
والثاني: بقاء الدجال في الدير - على ما تقدم - بأشد الوثائق مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبه بالحديد، وفي رواية: في بئر موثوق، وإذا كان بقاء الدجال ممكنا على الوجه المذكور من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه، فما المانع من بقاء المهدي مكرما من غير الوثاق؟ إذ الكل في مقدور الله تعالى.
فثبت: أنه غير ممتنع شرعا ولا عادة) وهنا قال الشيخ الإربلي بعد نقله ما ذكر: (فأما قوله: أن المهدي (ع) في سرداب وكيف يمكن بقاؤه من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه؟ فهذا قول عجيب وتصور غريب، فإن الذين أنكروا وجوده (ع) لا يوردون هذا، والذين يقولون بوجوده لا يقولون أنه في سرداب، بل يقولون أنه حي موجود يحل ويرتحل ويطوف في الأرض ببيوت وخيم وخدم وحشم وإبل وخيل وغير ذلك وينقلون قصصا في ذلك وأحاديث يطول شرحها...) وبعد هذا كله فهل تبقى قيمة لما ذكره السويدي؟!
ملاحظة: - لا ينافي ما تقدم احترامنا لهذا السرداب، وتقديسنا له، وذلك لما ثبت عندنا - وصرح به جماعة من المؤرخين والمحدثين - من أن هذه الأرض الواسعة بما فيها السرداب الطاهر، والمحيطة بالبقعة المباركة التي دفن فيها الإمامان الحسن العسكري ووالده الهادي عليهما السلام وغيرهما من أهل البيت، كانت موضع سكنى الإمامين وعوائلهما وذويهما، وعليها منازلهم ودورهم.
فالسرداب إذا بقعة يجب تقديسها والتبرك بها، ولذلك ورد الأمر بزيارة الإمام المهدي وذكره (ع) في هذا المكان الطاهر.
(١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 ... » »»