هنا تبتدئ مأساة هذا الشاعر، ومأساة آل زياد معا... انه لا بد لعباد من الانتقام، ولكن آل زياد يخشون نقمة الجماهير، إذا هم أساءوا إلى الشاعر من غير ذنب ظاهر تسمع به الجماهير، فتعذرهم على عقوبته.
وتربص عباد بالشاعر حتى جاءت فرصة الانتقام، إذ علم عباد أن لقوم دينا على الشاعر، فدس إليهم من يدفعهم أن يشكوا ابن مفرع إليه، فلما شكوه، حبسه وأخذ يعذبه، فلا يحتمل الشاعر التعذيب، ويجتهد في الحيلة على عباد حتى يطلقه من سجنه، ثم يجتهد الشاعر وقد استطاع الخروج من السجن - ان يجد الحيلة في الهروب من خراسان إلى العراق.
وهنا تكبر مأساة آل زياد أنفسهم، فإذا بالشاعر يبلغ منهم إربه، وإذا هو يشحذ لسانه في ذمهم وهجائهم وهو ما يزال في الطريق إلى العراق، يرسل البيت من الهجاء فيكتبه على حائط هذا الخان في أحد منازل الطريق، ثم يرسل البيت الآخر فيكتبه على حائط آخر في هذه المرحلة الأخرى من الطريق، وإذا الجماهير في مراحل الطريق كلها من خراسان إلى العراق، تتناقل أهاجي الشاعر في آل زياد فتحفظها بسرعة البرق، ثم تتناقلها بأكثر سرعة من ذلك، حتى تصل هذه الأهاجي إلى جماهير البصرة قبل أن يصل إليها الشاعر، وإذا أهل البصرة كلهم يتغنون في أشعار ابن مفرع بال زياد، ينفسون بها عن كربهم، ويمطون بها ألسنتهم يتلمظون بمساوئ آل زياد مستطيبين هجاءهم، لأنه جاء تمثيلا لما في صدورهم من الضغينة عليهم ومن الحقد على ما يجدون من استبدادهم وطغيان أمرهم فيهم.
ولكن الشاعر ما يكاد يصل البصرة، ويرى أهلها قد سبقته أشعاره إليهم فحفظوها وتغنوا بها في اسمارهم، وانطلقت بها ألسنتهم في هذا الحقل، وفي هذا البستان، وفي هذا المصنع، في طول المصر وعرضه، حتى يتجسم له شبح مأساة جديدة...
فقد علم عبيد الله بن زياد، والي البصرة، بمقدم الشاعر إليها من خراسان، وكان قد سمع بما تتغنى به أهل البصرة من أهاجيه في أخيه وآله، فأخذ يبحث عنه بحثا شديدا، حتى كاد يقبض عليه، فهرب إلى بلاد الشام.
وطفق الشاعر ابن مفرع ينتقل في قرى الشام ونواحيها - كما تقول رواية الأغاني - يهجو بني زياد، وتنتقل أشعاره فيهم من هناك إلى البصرة وتنتشر، وتبلغ بني زياد على السنة الناس أينما اتجهوا في المدينة، ويضيق عبيد الله ذرعا بهذا الأمر، فكتب إلى يزيد بن معاوية يقول له:
- " ان ابن مفرع هجا زيادا وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول الدهر، وتعدى ذلك إلى أبي سفيان، فقذفه بالزنا، وسب ولده، فهرب من خراسان إلى البصرة، وطلبته حتى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضغ لحومنا بها ويهتك أعراضنا، وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه ".
وبعث عبيد الله إلى يزيد بجميع ما حفظته جماهير البصرة من أشعار ابن مفرغ في بني زياد، فأمر يزيد بطلب الشاعر، فجعل يفلت من أيدي " رجال التحري " منتقلا من بلدة إلى بلدة، فإذا شاع خبره هنا انتقل إلى موضع آخر، حتى خرج من أرض الشام وانتهى إلى البصرة، ونزل فيها على الأحنف بن قيس مستجيرا فأبى أن يجيره رهبة من بني زياد، فلجأ إلى عدد من وجوه القوم، فلم يجره أحد منهم خشية ورهبة كذلك، حتى اجاره المنذر بن الجارود العبدي، وكانت ابنة هذا زوجا لعبيد الله بن زياد.
فلما علم عبيد الله، بعث إلى حميه المنذر أن يأتيه، فأتاه، وما كاد يخرج المنذر من داره، حتى كبسها الشرطة، وقبضوا على ابن مفرع وجاءوا به إلى عبيد الله، فلم يشعر المنذر الا وابن مفرع قد أقيم على رأسه، فجزع المنذر، وقال لعبيد الله:
- " أذكرك الله أيها الأمير، لا تخفر جواري، فإني قد أجرته ".
فقال له عبيد الله: " يا منذر، ليمدحن أباك ويمدحنك، ولقد هجاني وهجا أبي، ثم تجيره؟... لا ها الله لا يكون ذلك ابدا ولا أغفرها له ".
ويقف الشاعر امام عبيد الله، حين خلا به يعاتبه، موقفا جريئا صريحا لم يضطرب، ولم يتخاذل، ولم يستخذ استخذاء الذليل الجبان، وقال له في آخر حديث طويل له معه:
- "... وقد صرت الآن في يدك، فاصنع بي ما أحببت ".
فحبسه عبيد الله، ثم بعث إلى يزيد بن معاوية يسأله ان يأذن له في قتله، فكتب إليه يزيد يقول:
- " إياك وقتله، ولكن عاقبه بما ينكله ويشد سلطانك، ولا تبلغ نفسه (أي لا تزهق روحه) ".
فلما ورد كتاب يزيد على عبيد الله، امر بابن مفرع ان يسقى نبيذا حلوا قد خلط معه ما يسهل معدته، فلما أسهلت، أخذ الشرطة يطوفون به في شوارع البصرة، وهو في اسهاله، وقرن بهرة وخنزيرة، وجعل الصبية يتبعونه، حتى اضعفه الاسهال، فسقط، واخبر الشرطة ابن زياد ان ابن مفرع قد صار من الضعف بحيث لا نأمن أن يموت، فامر أن يغسل، فلما اغتسل الشاعر قال يخاطب ابن زياد: يغسل الماء ما فعلت، وقولي * راسخ منك في العظام البوالي.
فرده عبيد الله إلى الحبس، واخذ يتفنن السجانون في تعذيبه، ووصلت في هذه الأثناء من عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله جملة من أشعار ابن مفرع في بني زياد، فازداد غضبه، وبعث إلى يزيد بن معاوية ثانية يستأذنه في قتله، فلم يأذن له، وحذره أشد التحذير من ذلك، وأمره أن يعذبه وينكل به ما شاء ولا يبلغ به ازهاق روحه.
ولكن عبيد الله لم يشف غيظه من الشاعر، على رغم التعذيب والتنكيل، فبعث به إلى أخيه عباد في سجستان من بلاد خراسان، ليشفي هذا غيظه منه أيضا، فلما بلغه، وكل به رجالا أن يسيروا معه إلى كل مكان كتب على جداره شعرا في هجاء بني زياد، فيجبروه على أن يمحوه بأظافيره، فكانوا إذا دخلوا الخانات التي نزلها يوم هرب من خراسان إلى العراق، ألزموه أن يمحو ما وجدوه مكتوبا من شعره، فكان يفعل ذلك حتى ذهبت أظافره، فاخذ يمحوه بعظام أصابعه ودمه، حتى قطعوا الطريق كله على هذا مرحلة مرحلة، ثم ردوه إلى عباد فحبسه، وزاد في تعذيبه، إلى أن ضجت عشيرته، وضجت قبائل اليمن وقريش، وذهبت وفود إلى يزيد بن معاوية في الشام تنذره أن يطلق الشاعر من سجنه في خراسان.
فاضطر يزيد، ان يستجيب لطلب القوم، فبعث رجلا من بني أسد يقال له خمخام - وقيل جهنام - إلى عباد، وأمره ان يذهب إلى الحبس، فيخرج بابن مفرغ ويطلقه، قبل ان يعلم عباد، خشية أن يقتله في السجن اغتيالا، فلما خرج الشاعر من سجنه قربت إليه بغلة من بغال البريد، فركبها، فلما استوى على ظهرها، قال:
عدس (1)، ما " لعباد " عليك إمارة * نجوت، وهذا تحملين طليق فإن الذي نجى من الكرب، بعدما * تلاحم في درب عليك مضيق