عبادا رجل لئيم، فإياك والدلالة (1) عليه، وان دعاك إليها من نفسه، فإنها خدعة منه لك عن نفسك، واقلل زيارته فإنه طرف (2) ملول، ولا تفاخره وإن فاخرك، فإنه لا يحتمل لك ما كنت احتمله ".
ثم دعا سعيد بن عثمان بمال - كما يروى في الأغاني - فدفعه إلى ابن مفرع، وقال:
- " استعن بهذا المال على سفرك، فان طاب لك مكانك من عباد، وإلا فمكانك عندي ممهد ".
وظاهر من هذا كله، ان سعيد بن عثمان كان خالص النصيحة والود لشاعرنا بن مفرع، وظاهر كذلك أن سعيدا ليس بالبخيل الشحيح حتى نقول إن لعل بن مفرغ إنما رغب عن صحبته، طمعا بان ينال من عباد بن زياد ما لا يناله من سعيد بن عثمان من عطاء، كلاهما راحل إلى خراسان وكلاهما مقبل فيها على منصب رفيع مضافا إلى تحذير سعيد له من لؤم عباد وسرعة ملالته وتغيره على صاحبه، فماذا الذي يدعو الشاعر إلى إيثار عباد على سعيد اذن؟.
نجد مفتاح الجواب عند عبيد الله بن زياد، أخي عباد.
فإن عبيد الله هذا، ما إن علم أن مفرع سيصحب أخاه عبادا إلى خراسان، حتى أحس الشر في قرارة نفسه، وشق عليه ذلك، ولم يستطع ان يمنع أخاه من صحبة هذا الشاعر، واسر الأمر في صدره حتى ساعة السفر، وخرج أخوه ومعه الناس يشيعونه إلى خارج البصرة، وجعلوا يودعونه، فلما أراد عبيد الله أن يودع أخاه، دعا إليه الشاعر ابن مفرغ فقال له:
- انك سألت عبادا أن تصحبه، وأجابك إلى ذلك، وقد شق علي هذا.
فقال الشاعر: ولم ذاك، أصلحك الله؟...
فقال عبيد الله: " لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض، فهو - أي الشاعر - يظن، فيجعل الظن يقينا، ولا يعذر في موضع العذر، وأن عبادا ليقدم على أرض حرب، فيشتغل بحروبه وخراجه عنك، فلا تعذره أنت، وتكسبنا شرا وعارا!
فقال الشاعر: لست كما ظن الأمير، وأن لمعروفه عندي شكرا، وان عندي - ان أغفل أمري - عذرا ممهدا.
قال عبيد الله: " لا، ولكن تضمن لي إن أبطا عنك ما تحبه ان لا تعجل عليه حتى تكتب إلي ".
قال الشاعر: نعم.
فقال عبيد الله: امض - اذن - على الطائر الميمون.
فهل ترى إلى قول عبيد الله: " فتكسبنا شرا وعارا؟ " وهل ترى إلى عبيد الله كيف يبلغ به الذعر والهلع من صحبة هذا الشاعر لأخيه عباد؟. وهل تجد في ذلك كله سوى ذعر الطغاة المستبدين يحسون هول النقمة في نفوس الجماهير، ويخشون لسان الشاعر ان يلقي " الفتيل " في مواطن النقمة من هذه النفوس، فتشتعل وتنفجر؟.
الا ترى في هذا القلق يبديه عبيد الله من صحبة الشاعر لأخيه، وفي هذا الاحتياط الشديد للأمر، حتى يأخذ من الشاعر الضمانة بان لا يعجل على أخيه - إن ابطأ عنه - قبل أن يكتب الشاعر إليه، أي إلى عبيد الله في البصرة ليدبر هو الأمر - ألا ترى في هذا القلق وهذا الاحتياط الشديد، ان عبيد الله كان يعرف كيف تنظر الجماهير، في الأمصار إلى آل زياد، وكيف تنطوي صدورها على أسرار من أمورهم تنتظر لسان شاعر أن يثيرها في غضبة من غضباته وفي هجوة من أهاجيه الفاضحة، فإذا الأسرار تنتشر، وإذا الشاعر يكسبهم شرا وعارا "؟.
من هذا كله، يمكننا أن نقول أن عبيد الله كان يعلم من أمر الشاعر يزيد بن مفرع أنه لم يؤثر صحبة أخيه عباد إلى خراسان، لمجرد عطائه وجوائزه، ولكن ليطلع على أخباره واسوائه، ثم يعود بها إلى الناس أهاجي وفضائح.
وكان الأمر كما توقع عبيد الله. ولم ينفعه الاحتياط شيئا، ولم تغنه الضمانة التي ضمنها له الشاعر، فقد كان شاعرنا يزيد بن مفرع ينتظر ابطاء عباد عنه في خراسان، حتى يجد في ذلك فرصة لاصلات لسانه فيه، دون أن يكتب إلى عبيد الله يشكوه، لأن العطاء والجائزة لم يكونا بغية هذا الشاعر.
فهذه رواية الأغاني تقول ان عبادا ما كاد يصل إلى خراسان، حتى شغل بحربه وخراجه، فاستبطأه الشاعر، ولم يكتب إلى أخيه عبيد الله في ذلك كما ضمن له ساعة وداعه.
وهنا تقول الرواية: "... ولكنه - اي ابن مفرع - بسط لسانه في عباد، فذمه وهجاه، وكان عباد عظيم اللحية، فسار يزيد ابن مفرع مع عباد فدخلت الريح لحيته فنفشتها، فضحك ابن مفرع، وقال لرجل من بني لخم كان إلى جنبه:
الا ليت اللحا كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا!
وتمضي الرواية فتقول ان اللخمي هذا، وشى ابن مفرع إلى عباد، وان عبادا اغتاظ غيظا شديدا، ولكنه كظم غيظه، وأسرها في نفسه معتزما الشر لابن مفرع، وقال للواشي اللخمي:
- " لا تحمل بي عقوبته بهذه السرعة مع الصحبة لي، وما اؤخرها الا لأشفي نفسي منه، لأنه كان يشتم أبي في عدة مواطن ".
ويتبين لنا من هذا القول، ان عبادا ما كان ليجرؤ ان يعجل على الشاعر بالعقوبة، خشية " الشر والعار " وطمعا بان يداري الأمر قبل ان يفلت زمام الشاعر من يديه، ويتبين لنا من هذا القول أيضا أن ابن مفرع كان معروفا بعدائه لآل زياد، فقد كان " يشتم أبا عباد في مواطن كثيرة "... وهذا يؤيد ما قلناه في المقال السابق من أن رغبة الشاعر في صحبة عباد، وايثاره على سعيد بن عثمان، ليسا حبا بعباد أو طمعا فيه، بل لتكون له الفرصة ان يشفي نفسه منه " بذمه وهجائه ".
ويبلغ ابن مفرع ان اللخمي قد وشى به إلى عباد، ويبلغه وعيد عباد واسراره الشر له، فيداخله الخوف، ويستعجل الخلاص، فيستأذن عبادا بالرجوع إلى العراق، فيقول له عباد:
- " طلبت الاذن لترجع إلى قومك، فتفضحني فيهم "؟...
وهذه كلمة أخرى تضج بالذعر والهلع ان يكسبه الشاعر " شرا وعارا ".
ولعلك تتساءل الآن: ترى، كيف لم يكتب ابن مفرع إلى عبيد الله بن زياد يشكو إليه أخاه عبادا حين ابطأ عنه وفاء بوعده؟.
ولكنك عرفت الجواب مما قدمناه منذ قليل، فإن الشاعر قد ضمن لعبيد الله ان يكتب إليه وهو معتزم أن لا يفي بضمانته، وإنما كانت منه حتى لا يعوقه عبيد الله عن صحبة أخيه، ونيل الوطر الذي ينشده من صحبته، أي ان يهجوه ويكسبه " شرا وعارا ".
والمسألة الآن هي: كيف يصنع عباد لكي يخنق شبح " الشر والعار " الذي يتراءى له من وراء لسان الشاعر، ويكاد من خوفه أن يراه منطلقا في الجماهير يكسب آل زياد " شرا وعارا "؟.