قاد الأمير هذه القوات إلى جبل عامل تنهب وتدمر القرى التي تمر بها (1).
وفي العشرين من تشرين الأول 1771 ظهرت على شاطئ صيدا المراكب المصرية التي وجهها ظاهر العمر من يافا لاحتلال المدينة، فحاولت أن تقوم بعملية إنزال بحري، لكن مدفعية المدينة حالت دونها، وتبادل الفريقان القصف ولم تلبث أن عانت مدفعية القلعة من نقص البارود. فطلب درويش باشا من القنصل الفرنسي في صيدا أن يزوده بالبارود، وإلا تعرضت الجالية الفرنسية لانتقام الأهالي، فاضطر الأخير أن يأتيه بعشرين رطلا من قعر إحدى السفن الفرنسية الراسية في ميناء صيدا. وحين وجد المصريون أنهم لم يتمكنوا من احتلال المدينة انسحبوا بمراكبهم إلى صور (2).
وفي 21 تشرين الأول وصلت إلى صيدا أنباء هزيمة الأمير يوسف في النبطية. فدب الرعب في قلب الشيخ علي جنبلاط ودرويش باشا، وخشيا أن تتابع زحفها إلى صيدا قوات جبل عامل المنتصرة، وليس لدى المدينة القوات الكافية للمدافعة عنها، مما يعرضها لخطر الوقوع في قبضة ظاهر وحلفائه (3).
كما شعر المشايخ الذين أبقاهم الأمير يوسف في المدينة بأن قواتهم سوف تتعرض للهزيمة بجانب القوات العثمانية، ولن ينالوا أية نتيجة من الدفاع عن صيدا ضد ظاهر والعامليين، فأخلوا المدينة بعد أن نهبوها وهرب معهم درويش باشا (4). وتسلمت سلطات المدينة مسؤولية الأمن فيها (5).
وقرر ظاهر وحلفاؤه الاستفادة من هذا النصر والعودة إلى صيدا، التي أصبحت خالية من الجنود بعد أن كانت تعج بهم (6). فسار الشيخ الزيداني بقواته من عكا إلى صور، حيث أقامت معسكرا فيها، وأمر المراكب الروسية الراسية في ميناء بالإبحار إلى صيدا (7).
وفي صباح الثالث والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1771 وصل المنتصرون إلى أبواب صيدا، وأعطوا السكان الأمان والطمأنينة، وأشاعوا بينهم بأنهم لن يسيئوا إلى أحد، فوثق الأهلون بكلامهم وفتحوا لهم أبواب المدينة، فدخلوها والسيوف بأيديهم، ثم أخذوا ينهبون كل ما صادفوه، وخلعوا وكسروا أبواب المنازل والمخازن، ورفعوا محتوياتها من مفروشات وثياب وبضائع. ولم يفرقوا في السلب بين رجل أو امرأة أو طفل، وخلال ثلاث ساعات لم يكن يسمع في المدينة سوى الصراخ والعويل ولكنهم لم يقتلوا أحدا (8).
وعم الخوف وخشي القنصل الفرنسي والجالية أن يصيبهم ما أصاب السكان، لكن الغزاة الجدد احترموا تعليمات ظاهر القاضية، بعدم التعرض للفرنسيين بأي أذى. وكلف القنصل بعض جنود ظاهر بحراسة الخان لمنع التعديات عنه، وقد أصابت النكبة جميع سكان المدينة ونادرا ما وجد منزل سلم من النهب (9).
وبعد ثلاث ساعات وصل إلى المدينة الشيخ ناصيف النصار والشيخ عباس العلي والشيخ علي ظاهر العمر فأوقفوا النهب وأبدوا كثيرا من الألم لما حصل (10). وبعد ما أمنوا القنصل الفرنسي، تركوا له حراسة على الخان، وأخرجوا جميع القوات التي اجتاحت المدينة وحاولوا إعادة النظام والهدوء إليها (11). ثم رسى ثمانية عشر مركبا تحمل المدينة من قبل علي بك ويدعى الكاشف المصطفى بك، معه سبعماية جندي أعادوا الأمن إلى صيدا (12). وأبدى الحاكم الجديد استياءه لما أصاب السكان، وأبلغ ترجمان القنصلية الفرنسية، بأن نية سيده علي بك إنقاذ الأهالي من الظلم وإنعاش التجارة، وبعد أن تفقد القلعة والمدينة (13)، طلب من المشايخ العامليين أن يخرجوا بفرسانهم (14). ثم حضر إلى صيدا حاكمها من قبل ظاهر العمر ويدعى أحمد آغا الدنكزلي ومعه قوات من الصفديين، واهتم بتحصين أسوار المدينة لتتمكن من الصمود إذا ما تعرضت لأي هجوم مفاجئ، واستخدم في سبيل ذلك عددا كبيرا من السكان. ومع ذلك ظلت الأسوار ضعيفة، لا يمكنها الصمود أمام طلقة مدفع، كما أفاد القنصل الفرنسي الذي شهد ذلك، (15) والذي ألقى مسؤولية سقوط المدينة على عثمان باشا وابنه دوريش (16).
وكانت معظم القوات المملوكية التي دخلت المدينة من الأتراك، الذين أجبرهم علي بك على الحضور إلى صيدا بالقوة، وكانوا في حالة خوف دائم من أن يتعرضوا لأي هجوم من رعايا جبل الدروز (17)، الذين كانوا يطالبون بإعادة صيدا لهم، لأن أجدادهم كانوا يحكمونها سابقا منذ القدم، وبأنهم سوف يسترجعونها عندما تحين الفرصة المناسبة (18).
صدى هزائم والي دمشق وحلفائه وبسقوط صيدا تكون جميع المدن الساحلية الشامية، الممتدة من غرة إلى صيدا وجانب كبير من فلسطين وولاية صيدا، قد تخلصت من السيطرة العثمانية واستبدلتها بنوع من الحكم الثنائي، المكون من ظاهر وناصيف وعلي بك. وبذلك يكون المتحالفان قد حققا الجانب الأكبر من مشروعهما التوسعي المشترك، القاضي بالسيطرة على كل الساحل الشامي (19) من غزة إلى طرابلس، على أن تمتد سلطة شيخ البلد لغاية غزة، في حين يخضع لسلطة ظاهر ما تبقى منه، على أن يقوم كلا منهما بالتوسع بمفرده وبجهوده الشخصية في عمق البلاد الخاضعة له. وذلك يمنحها موقعا ممتازا من حيث نجدة بعضهما، وسوف تكون بلاد ضاهر بمثابة حاجز يحمي علي بك من أعتى القوات، ويمكنه من الانصراف إلى الاهتمام بحماية ما تبقى من حدوده أي من الصحراء والمغرب والبحر (20).
حين علم السلطان العثماني مصطفى الثالث (1757 - 1774) بالهزائم التي مني بها عثمان باشا وحلفاؤه في بلاد الشام، وجد أن من غير المناسب أن يقيل عثمان باشا في أثناء وجود القوات المملوكية في بلاد الشام، لأن ذلك سوف يؤدي إلى زيادة نفوذ علي بك الذي قد سبق وطلب من السلطان مع حليفه ظاهر العمر بإقالة الباشا، وساعد انسحاب القوات المصرية، بقيادة