النجف الأشرف انسجاما مع نهجه وسلوك من سبقه من أسرته، فإن والده المرحوم السيد حسن إبراهيم أسس مدرسة دينية في قرية أنصار حفلت بالطلاب وبعد وفاة والده تعهد هو بشؤونها، وتملك الأسرة بيتا في النجف يسكنه طالب العلم من أبنائها.
ذهبت وأنا لا أتجاوز السنة الرابعة عشرة مع والدتي قاصدا النجف.
ثم أذكر أنني وصلت البلد المقصود فارتديت بزتي الجديدة ودخلت في غمار الطلاب، ولم أنتسب لمدرسة ذات منهاج محدد وبرنامج خاص. ابتدأ أستاذي يشرح لي كتاب (ابن هشام) في النحو وأنا أتلقف كلماته بشغف ونهم وانتباه، وانتهى به المطاف وهو يفسر (الكلمة قول مفرد) ويفرق بين الجنس والفصل لهذه الجملة (واستعمال الأجناس البعيدة في الحدود معيب عند أهل النظر).
فعسر على ذهني فهمها وصعب علي حلها، وعز على أستاذي ذلك فطاف بموضوعات وعلوم متنوعة ليستعين بها على توضيح المعنى فلم يفتح الله عليه، ثم رضت نفسي فألفت هذه التعابير وأقبلت عليها استسهل صعابها وأحل رموزها، فقد علمت أنني نقطة صغيرة في الخضم الواسع ليس لي أن أشكو غموض الأداء وقصور التعبير، وإقحام علم في علم والاستطراد من موضوع لموضوع فأساليب التدريس لا يغيرها اقتراحي ولا تعدلها شكواي.
ولم تزل تحتل في فكري وقلبي - وإن بعد المدى - المكان الأول صورة ليالي شهر رمضان وأسحارها وروعتها، تمر أمام ذهني هذه الصور الفاتنة من الماضي فأود لو تعود، ويتملكني الحنين للنجف ومن فيه فأهتف بها وبساكنيها قائلا:
أرض الغري وكل ما منح الحجى * للناس من فضل فمنك المبتدى ولكل فكر أنت كعبة مأمل * الركب سار وفيه حاديه حدا وبكل نفح من عواطف شاعر * طيب من النجف امترى وتزودا همنا بذكرك فالسواجع لم تثر * لولاك لحنا والمغرد ما شدا بقي الحنين العاملي على المدى * شعرا ونثرا للوصي مخلدا و لسادة حلوا بجيرة حيدر * باتوا لآمال البرية مقصدا لي أوبة لحمي علي أنتشي * من قدسه وأرى بتربته الهدى وأجدد العهد القديم وانثني * ومعي البراءة فهو أصل للندى قرأت بعد رجوعي من النجف على المرحوم الوالد بقية الكتب المعروفة في المنطق والبيان، والأصول والفقه، ثم عينت معلما للدروس الدينية في مدرسة النبطية الرسمية فابتدأت مع الشعر والأدب مرحلة جديدة في حياتي، ذلك أن النبطية كانت مسرحا فكريا وأدبيا واسعا، ويكفي للدلالة على ذلك وجود الشيخ عبد الحسين صادق والشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر وغيرهم فيها.
وكانت مجلة العرفان لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزين، في أوجها فوجدت في نفسي ميلا آسرا لنشر ما عندي، وكانت البداية في مجلة العرفان (أدباء جبل عامل بقلم رسام).
ومن المواضيع التي عالجتها فيها، شعراء من جبل عامل، ومن صور الحياة، ورسوم.
ولولا ذلك العلم الفرد الذي ظل ثمانين عاما أمام دواته وقلمه، يفكر ويستهدف، يعبد ربه ويجلس إليه في الأسحار والناس نيام فيرتل ويحن ويتشوق ثم ينصرف من ساعة النجوى مع خالقه لأرفع ما خلق وأسماه، فيقف أمام باب المعرفة خاشعا ينفض الأتربة المتراكمة على الهيكل، أجل لولا صاحب أعيان الشيعة) السيد محسن الأمين، ما عرفنا شيئا عن شعراء وأدباء جبل عامل.
تحدثت عنهم طويلا بالإذاعة اللبنانية، فموضوع أدباء من وطني كان يذاع كل أسبوع، وكانت لنا في أيامنا الزاهرة طرائف جميلة منشورة في العرفان فمنها هذه القصيدة:
من للجمال إذا انصرفت عن الهوى * وأرقت راحك يا هوى الندمان وجعلت همك يا طويل العمر في * دفن الجنائز من بني شيبان وجلست بين عجائز لا ترتجى * الا حلول النصف من شعبان وحملت سبحة زاهد متبتل * ما انفك يهدي الجهل للإنسان من للحياة يكف من بأسائها * ويثيرها حربا على الحرمان ويقول للزعماء آن حسابكم * فالذئب جار على قطيع الضان من للشتيت من الرجال تنافسوا * بالجهل واتفقوا على الخذلان وتمسكوا بالزور حتى خلتهم * أصلا لكل موارد البهتان يا صاحب القلم المشع ألا اتئد * للشعب أنت ولست للأعيان للحب أنت وللجمال فلا تقف * في الصف بين البوم والغربان ما أشرف الحرمان يلهم شاعرا * فتفيض منه جوانب البركان ويناضل الأحداث في غلوائها * إن النضال طبيعة الفنان قل لي بربك أين أنت فحولنا * ليل ونحن على الضلال حواني وعينت سنة 1943 بالمحكمة الجعفرية العليا بوظيفة لم تحقق أملي، فذهبت للوزير الذي عينني، وظن أني جئته مادحا شاكرا، فسر أول الأمر، ثم وقفت وخاطبته بقولي:
ما كنت أحسب أن سيغريني الهوى * فأجد في طلب الأماني الشرد وأبيت بين الطامعين فريسة * للوهم لم تقبض على أمل يدي ومن البلية أن أساس بمنطق * يوحيه للزعماء خلقهم الردي إنا شهدنا للوظائف حلبة * يجري بها فيفوز كل مبلد أما الكفاءة فهي ظل زائل * وردت بعهدكم أخس المورد وكان لي مع قضاة المحاكم الجعفرية مواقف شعرية طريفة في السنين التي قضيتها بينهم، والتي ندبت فيها سوء حظي بقولي:
ما بين ارث قسمت أبوابه * أحيا وإرث مهمل لم يحصر وقلت من قصيدة (بين بعلبك وجبل عامل) مخاطبا الشيوخ البعلبكيين:
يا بعلبك أتيت من جبل سما * وله يعود النقض والإبرام من عامل وطن المعارف والحجى * يكفيه ذا فخرا فليس يضام كم رف فوق جباله علم وكم * جالت بمتن خيوله أعلام وطن الجحاجح كم لهم من آية * غراء فيها عزز الإسلام هم خلدوا الآداب في نفحاتهم * فزهت ونالت مجدها الأقلام والشعر عندهم الحبيب المجتبى * صلوا له بعد الاله وصاموا والعلم هم رواده وحماته تروى وتؤخذ عنهم الأحكام وهم الذين تبوأوا دست العلى عشقوا الكمال وبالحقيقة هاموا نثروا المعارف واستجابوا للهدى * تحني لمجد السابقين الهام وعند ما أثرنا معركة شعرية بين الشيوخ والشعراء وقف أحدهم بجانب