سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١ - الصفحة ٤٧٣
عبدة بن سليمان: عن الأعمش، عن شقيق، قال عبد الله: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) [آل عمران: 161] على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟
لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، لرحلت إليه. قال شقيق: فجلست في حلق من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما سمعت أحدا منهم يعيب عليه شيئا مما قال ولا يرد عليه (1).

(١) أخرجه مسلم (٢٤٦٢) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه. وقال النووي ٥ / ٣٢٥ في " شرح مسلم ": معناه أن ابن مسعود كان مصحفه يخالف مصحف الجماعة.
وكانت مصاحف أصحابه كمصحفه، فأنكر عليه الناس وأمروه بترك مصحفه، وبموافقة مصحف الجمهور. وطلبوا مصحفه أن يحرقوه كما فعلوا بغيره، فامتنع، وقال لأصحابه: غلوا مصاحفكم أي: اكتموها. (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) يعني: فإذا غللتموها جئتم بها يوم القيامة وكفى لكم بذلك شرفا. ثم قال على سبيل الانكار: من هو الذي تأمرونني أن آخذ بقراءته، وأترك مصحفي، الذي أخذته من في رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟.
وقال القرطبي في " المفهم " ٤ / ٣٩ / ٢: " لما رأى عثمان حرق المصاحف ما عدا المصحف الذي بعث نسخته إلى الآفاق، ووافقه على ذلك الصحابة لما رأوا من أن بقاءها يدخل اللبس والاختلاف في القرآن، ذكر ابن مسعود الغلول وتلا الآية، ثم قال: إني غال مصحفي فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل، فإن الله يقول: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة)، على قراءة من تأمروني أقرأ؟ على قراءة زيد! لقد أخذت من في رسول الله بضعا وسبعين سورة، وزيد له ذؤابتان يلعب مع الغلمان ". ومعنى قوله: غلوا مصاحفكم، أي: اكتموها ولا تسلموها والتزموها إلى أن تلقوا الله بها، كما يفعل من غل شيئا فإنه يأتي به يوم القيامة يحمله. وكان هذا منه رأيا انفرد به عن الصحابة، فإنه كتم مصحفه ولم يقدر عثمان ولا غيره على أن يظهره. وانتشرت المصاحف التي كتب بها عثمان إلى الآفاق، ووافقه عليها الصحابة، وقرأ المسلمون عليها، وترك مصحف عبد الله وخفي، إلى أن وجد في خزائن بني عبيد بمصر عند انقراض دولتهم، وابتداء دولة الغز. فأمر صدر الدين قاضي الجماعة بإحراقه على ما سمعنا من شيوخنا. وقوله: على قراءة من تأمروني أقرأ، قاله، إنكارا على من أمره بترك قراءته ورجوعه إلى قراءة زيد، مع أنه سابق له إلى حفظ القرآن، وإلى أخذه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصعب عليه أن يترك قراءة قرأها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويقرأ بقراءة زيد أو غيره. وتمسك بمصحفه وقراءته، وخفي عليه الوجه الذي ظهر لجميع الصحابة من المصلحة التي هي من أعظم ما حفظ الله به القرآن عن الاختلاف المخل به، والتغيير بالزيادة والنقص. وكان من أعظم الأمور على عبد الله أن الصحابة لما عزموا على كتب المصحف بلغة قريش عينوا لذلك أربعة، لم يكن منهم ابن مسعود، وكتبوه على لغة قريش. ولم يعرجوا على ابن مسعود لأنه كان هذليا، وكانت قراءته على لغتهم. وبينها وبين لغة قريش تباين عظيم، فلذلك لم يدخلوه معهم.
وقال المحدث أحمد شاكر رحمه الله: وكان هذا من ابن مسعود حين أمر عثمان بجمع الناس على المصحف الامام خشية اختلافهم، فغضب ابن مسعود، وهذا رأيه ولكنه رضي الله عنه، أخطأ خطأ شديدا في تأويل الآية على ما أول. فإن الغلول هو الخيانة. والآية واضحة المعنى في الوعيد لمن خان أو اختلس من المغانم. وقال ابن العربي في " أحكام القرآن " ٤ / ١٩٤٢ بعد إيراده هذا الحديث: " هذا مما لا يلتفت إليه بشئ "، إنما المعول عليه ما في المصحف فلا تجوز مخالفته لاحد. ثم بعد ذلك يقع النظر فيما يوافق خطه مما لم يثبت ضبطه حسب ما بيناه في موضعه. فإن القرآن لا يثبت بنقل الواحد، وإن كان عدلا، وإنما يثبت بالتواتر الذي يقع به العلم، وينقطع معه العذر، وتقوم به الحجة على الخلق ".
ونقل القرطبي، عن أبي بكر الأنباري، بعد إيراده الحديث هذا، وحديث " إني أنا الرازق ذو القوة المتين " عن ابن مسعود، قوله: " كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الاجماع له، وإن حمزة وعاصما يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين. والبناء على سندين يوافقان الاجماع أولى من الاخذ بواحد يخالفه الاجماع والأمة وما يبنى على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه أخذ برواية الجماعة وأبطل نقل الواحد كما يجوز عليه من النسيان والاغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء، وكان إسناده مقبولا معروفا، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر الصحابة رضي الله عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة وجميع أهل الملة.
(٤٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 468 469 470 471 472 473 474 475 476 477 478 ... » »»