الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ١٠٨
لما تبين في محله من امتناع وجود الكلي الطبيعي في الخارج فيمتنع تعلق التكليف بها فيتعين أن يكون المطلوب به الفرد وهو المطلوب والجواب منع المقدمة الأولى فإن التحقيق إمكان الوجود الكلي الطبيعي في الخارج كما عليه معظم المحققين وبيانه موكول إلى فنه وأجاب الفاضل المعاصر بعد التنزل عن الأصل المذكور بأن من ينكر وجود الكلي الطبيعي في الخارج لا ينكر وجوده في العقل وأن العقل ينتزع من الافراد الخارجية باعتبار نفس ذواتها أو بانضمام أمور طارئة عليها مفاهيم كلية لها نوع اتحاد مع الافراد فنقول حينئذ لا مانع من تعلق الطلب بذلك المفهوم الكلي وإن امتنع وجوده في الخارج لان امتناعه مبني على التدقيقات الحكمية وأهل العرف يفهمون من تلك الخطابات أن المطلوب ذلك المفهوم الكلي من غير عبرة بخصوصيات الافراد ويزعمون إمكان وجوده في الخارج في ضمن الفرد ولا ريب أن الخطابات الشرعية تحمل على حسب ما يتفاهمه أهل العرف لا على ما يقتضيه التدقيقات الحكمية هذا محصل كلامه أقول لا خفاء عند أولي الأنظار المستقيمة أن تكاليف الشارع إنما تتعلق بما يصح تعلقها به واقعا لا ما يصح في زعم أهل العرف فالطبيعة من حيث هي إذا امتنع في الواقع تحققها في الخارج امتنع تعلق التكليف بها لأنه تكليف بالممتنع وهو مما يقبح صدوره عن الحكيم العالم وزعم أهل العرف إمكان حصولها في ضمن الفرد لا يؤثر في رفع الاستحالة والقبح بعد علم الامر بخلافه وهل ذلك إلا كطلب إبصار الجسم حقيقة إذا زعم أهل العرف أنه مما يمكن إبصاره مع أنه قد تقرر في محله أنه محال نعم يجوز أن يكلف بإيجاد ما يزعم أن الطبيعة موجودة فيه أو يزعم أنه إبصار للجسم لكنه يرجع في الحقيقة إلى الامر بالفرد لا بالطبيعة وبإبصار اللون والشكل لا الجسم لا يقال ما ذكر إنما يتجه إذا أريد تعلق الطلب بالطبيعة باعتبار نفسها وأما إذا أريد تعلقه بها باعتبار ما تصدق عليه من الافراد فلا لأنا نقول كلام المجيب مبني على الوجه الأول إذ الوجه الثاني يرجع إلى تعلق الطلب بالفرد دون الطبيعة ومعه يتم مقصود الخصم و اعلم أنه قد اشتهر في العبائر والألسنة أن الأحكام الشرعية لا تبتني على التدقيقات الحكمية والعقلية بل تنزل على حسب الافهام العرفية ولهذا الكلام تحقيق وهو أن من الافراد و الأجزاء ما يكون فرديته وجزئيته بحسب العقل دون العرف حتى أنهم يفهمون من ألفاظها في المحاورات ما عدا ذلك الفرد وذلك الجز كما في لون النجس إذا تخلف في جسم طاهر فإنه لا ينفك عن أجزاء صغار متخلفة من ذلك في ذلك النجس بناء على امتناع انتقال العرض وأن حصوله ليس بالاعداد أو علم ذلك في خصوص مورد كما في الدخان المتصاعد عن النجس والبخار الحاصل منه فإنهما لا ينفكان عن أجزاء متصاغرة جدا من العين النجسة عند التحقيق و التدقيق إلى غير ذلك مع أن أهل العرف لا يعدونها أجزاء منها ففي مثل ذلك لا يحمل اللفظ إلا على حسب ما يتفاهمه أهل العرف وقس على ذلك الحال في نظائره كوحدة الموضوع وتعدده وبقائه و انعدامه في جريان الاستصحاب وعدمه إلى غير ذلك وليس المراد أن التدقيقات العقلية إذا قضت بامتناع شئ لم يعبأ بها لمخالفة أهل العرف لها فإن ذلك ربما يؤدي إلى هدم أساس الشريعة ثم إنه أورد على القول المذكور إيرادين أحدهما أنه يلزمهم كون أكثر خطابات الشرع مجازات حيث أطلق اللفظ الموضوع بإزاء الطبيعة من حيث هي وأريد به الفرد ويمكن دفعه بأن الامر على هذا لا يستعمل إلا في طلب الافراد فلا يكون موضوعا لغيره ولو سلم فاللازم صيرورته منقولا إليه بالاستعمال والهجر فإن قيل يمكن دفعه أيضا بأن إطلاق الكلي على الفرد إنما يوجب التجوز إذا أطلق وأريد به الفرد من حيث الخصوصية وأما إذا أطلق وأريد الفرد من حيث يتحقق الطبيعة الكلية فيه وأريد خصوصية الفرد من قرينة خارجية كامتناع تعلق الحكم بالطبيعة من حيث هي لم يلزم ذلك قلنا هذا إنما يتم على القول بوجود الطبائع في الخارج كما هو المختار وأما على القول بعدمه كما يراه الخصم فلا إذ لا تحقق للطبيعة حينئذ في ضمن الافراد حتى يطلق عليه اللفظ باعتباره الثاني أن الدليل المذكور إنما يفيد أن المطلوب هو الفرد في الجملة فإن عين كان تحكما وإن اعتبر فردا ما بقي الاشكال لأنه كلي أيضا وفيه نظر لأنا لا نسلم أن فردا ما كلي بل جزئي مردد وتوضيح ذلك أن الماهية تعتبر تارة من حيث هي هي بهذا الاعتبار إذا وجدت في العقل كانت صالحة للصدق على كثيرين فهي كلي بلا إشكال وتارة من حيث تحققها في ضمن فرد بخصوصه وهذا جزئي بلا إشكال وأخرى من حيث تحققها في ضمن أحد الافراد لا على التعيين وهذا أيضا جزئي لان الماهية حينئذ مأخوذة مقيدة بقيد التشخص المانع من الشركة والصدق على كثيرين إلا أن تقييدها بكل شخص تقييد ترديدي لا تعييني وذلك لا يصيرها كليا لظهور أن هذا المفهوم لا يتم إلا بأخذ تشخص من التشخصات معه ومعه لا يحتمل الصدق على غيره وإن كان التقييد بكل شخص غير لازم على التعيين ووصف الجزئية إنما يعرض للماهية ومن حيث تقييدها بالتشخص ولا مدخل لكون التقييد تعيينا [تعينا] في ذلك فتبين من تحقيقنا هذا أن النكرات من المفردات المنونة بتنوين التنكير وما في حكمها والمثنى والمجموع جزئيات وليست بكليات كما سبق إلى كثير من الافهام ولو كان مدلول النكرة الماهية المقيدة بمفهوم الفرد دون مصداقه لامتنع إفادتها لمعنى البدلية ضرورة أن الكلي المقيد بكلي آخر كلي ثالث يتساوى نسبة صدقه إلى جميع أفراده من غير بدلية لامتناع وجود كلي في أفراده بطريق البدلية لكن هذا البيان بظاهره كما ترى إنما يتجه على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج فلا يلائم مقالة الخصم بل الوجه في توجيه كلامه أن يقال مفاد النكرة عند هذا القائل كل واحد من الافراد على وجه يجوز قيام الاخر مقامه في كونه مفاد اللفظ ومتعلقا للحكم أو يقال ليس المراد بالفرد مفهوم الفرد باعتبار كونه هذا المفهوم بل باعتبار ما صدق عليه وهو جزئي قطعا فيرجع التكليف على هذا إلى مطلوبية مصداق فرد من الماهية لا على التعيين فالامر يعتبر الماهية آلة لملاحظة حال أفرادها ويأمر بكل واحد منها على البدلية فيكون بمنزلة الواجب
(١٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 ... » »»