تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٢٥٩
فيه من الختم بالحسنى. وذكر القاضي بيض الله تاعلى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب. تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار إليه بالانذار. واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كما لها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى المشار إليه بالعلم، واستصلاح القوة التي هي التدرع بلباس التقوى المشار إليه بالتذكر، والظاهر أن المراد بأولي الألباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقا، ولا يقدح في ذلك ما قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيرا ما جاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى: * (ولينذروا به) * معطوف على قوله سبحانه: * (ليخرج الناس) * وهو من البعد بمكان، نسأله سبحانه عز وجل أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا) * قال ابن عطاء: أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنا من الفراق والحجاب، وقيل: اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك * (واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام) * (إبراهيم: 35) من المغوبات الدنية والمشتهيات الحسية.
وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة، وعنه أنه قال: أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنا من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان ضمنه فاستعاذ من ذلك.
وقال الجنيد قدس سره: أي امنعني وبنى أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار، وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه، وجاء النفس هو الصنم الأكبر * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس بالتعلق بها والانجذاب إليها والاحتجاب بها عنك سبحانك * (فمن تبعني) * في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك * (فإنه مني) * طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي * (ومن عصاني) * وفعل ما يقتضي الحجاب عنك * (فنك غفور رحيم) * (إبراهيم: 36) فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك. قيل: إن هذا منه عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بإفاضة الكمال عليه بعد المغفرة. ومن كلام نبينا صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله: * (ومن عصاني) * إلى مقام الجمع ولذا لم يقل: " ومن عصاك " ويجوز أن يقال: إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن، وما من دابة الأوربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عز وجل وأجله من أن يثبت أن أحدا يجترىء على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال " فمن تبعني " " ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " قيل: إن من عادة الله تعالى أن يبتلى خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عز وجل، وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وايوائهم إلى جوار كرامته " ربنا ليقيموا الصلاة " التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك " فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم " تميل بوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك، قال ابن عطاء من انقطاع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 » »»