الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٥٥٧
امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون.
____________________
الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول كأنهما شئ واحد، ثم يصب النهى عليهما جميعا صبا، وفى الأول يقدر النهى موجها على الفعل على حياله ثم يعلل له منهيا عنه. فإن قلت: بأي النهيين تعلق المفعول له؟ قلت: بالثاني عند البصريين مقدرا إضماره عند الأول كقوله تعالى - آتوني أفرغ عليه قطرا - وبالعكس عند الكوفيين وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل، وقراءة ابن مسعود فتحبط أعمالكم أظهر نصا بذلك، لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبله، فيتنزل الحبوط من الجهر منزلة الحلول من الطغيان في قوله تعالى - فيحل عليكم غضبى - والحبوط من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وربما هلكت، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم " ومن أخواته حبجت الإبل إذا أكلت العرفج فأصابها ذلك، وأحبض عمله مثل أحبطه، وحبط الجرح وحبر إذا غفر وهو نكسه وتراميه إلى الفساد. جعل العمل السئ في إضراره بالعمل الصالح كالداء والحرض لمن يصاب به، أعاذنا الله من حبط الأعمال وخيبة الآمال. وقد دلت الآية على أمرين هائلين: أحدهما أن فيما يرتكب من يؤمن من الآثام ما يحبط عمله، والثاني آن في آثامه ما لا يدرى أنه محبط، ولعله عند الله كذلك، فعلى المؤمن أن يكون في تقواه كالماشي في طريق شأنك لا يزال يحترز ويتوفى ويتحفظ (امتحن الله قلوبهم للتقوى) من قولك امتحن فلان لأمر كذا وجرب له ودرب للنهوض به فهو مضطلع به غير وان عنه، والمعنى: أنهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها، أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشئ باختباره كما يوضع الخبر موضعها فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم للتقوى، وتكون اللام متعلقة بمحذوف، واللام هي التي في قولك أنت لهذا الأمر: أي كائن له ومختص به، قال * أنت لها أحمد من بين البشر * أعداء من لليعملات على الوجى * وهى معمولها منصوبة على الحال، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل التقوى: أي لتثبت وتظهر تقواها ويعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها وقيل أخلصها للتقوى من قولهم امتحن الذهب وفتله إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونقاه. وعن عمر رضي الله عنه: أذهب الشهوات عنها. والامتحان افتعال من محنة وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد، قال أبو عمرو: كل شئ جهدته فقد محنته، وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها * قد محنت واضطربت آطالها قيل أنزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار، وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما لأن المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا والمبتدأ اسم الإشارة واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خفض أصواتهم وفى الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء. والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظلة من خلف
(٥٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 552 553 554 555 556 557 559 560 561 562 563 ... » »»