الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٢٤
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لامرد له
____________________
وقوله تعالى - فأولئك هم المضعفون - التفات حسن كأنه قال لملائكته وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، فهو أمدح لهم من أن يقول فأنتم المضعفون: والمعنى: المضعفون به لأنه لابد من ضمير يرجع إلى ما. ووجه آخر وهو أن يكون تقديره: فمؤتوه أولئك هم المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وهذا أسهل مأخذا، والأول أملأ بالفائدة (الله) مبتدأ وخبره (الذي خلقكم) أي الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شئ منها أحد غيره، ثم قال (هل من شركائكم) الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها (من يفعل) شيئا قط من تلك الأفعال حتى يصح ما ذهبتم إليه ثم استبعد حاله من حال شركائهم.
ويجوز أن يكون الذي خلقكم صفة للمبتدأ والخبر هل من شركائكم، وقوله (من ذلكم) هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لان معناه من أفعاله، ومن الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم (الفساد في البر والبحر) نحو الجدب والقطح، وقلة الريع في الزراعات والربح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس، والدواب وكثرة الحرق والغرق، واخفاق الصيادين والغاصة، ومحق البركات من كل شئ، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار. وعن ابن عباس: أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا إذا انقطع القطر عميت دواب البحر. وعن الحسن أن المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على شاطئه. وعن عكرمة:
العرب تسمى الأمصار البحار. وقرئ في البحر والبحور (بما كسبت أيدي الناس) بسبب معاصيهم وذنوبهم كقوله تعالى - وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم - وعن ابن عباس: ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بأن جلندي كان يأخذ كل سفينة غصبا. وعن قتادة: كان ذلك قبل البعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم. ويجوز ان يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك. فإن قلت: ما معنى قوله (ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)؟ قلت: أما على التفسير الأول فظاهر، وهو أن الله قد أفسد أسباب دنياهم، ومحقها ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه، وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك، وقرئ لنذيقهم بالنون. ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله، ونكاله حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، ودل بقوله (كان أكثرهم مشركين) على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، وأن ما دونه من المعاصي يكون سببا لذلك. القيم: البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج
(٢٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 219 220 221 222 223 224 225 226 227 228 229 ... » »»