التبيان - الشيخ الطوسي - ج ٩ - الصفحة ١٨٣
مثل الأولين (8) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون) (10) خمس آيات بلا خلاف يقول الله تعالى مخبرا " وكم أرسلنا من نبي في الأولين " يعني في الأمم الماضية (وكم) موضوعة للتكثير في باب الخبر، وهي ضد (رب) لأنها للتقليل.
ثم اخبر عن تلك الأمم الماضية انه كان ما يجيئهم نبي من قبل الله إلا كانوا يستهزؤن به بمعنى يسخرون منه. فالاستهزاء إظهار خلاف الابطان استصغارا أو استحقارا فالأمم الماضية كفرت بالأنبياء واحتقروا ما أتوا به، وظنوا انه من المخاريق التي لا يعمل عليها لجهلهم وفرط عنادهم، فلذلك حملوا أنفسهم على الاستهزاء بهم، وهو عائد بالوبال عليهم.
فان قيل: لم بعث الله الأنبياء مع علمه بأنهم يستهزؤن بهم ولا يؤمنون عنده؟ قيل: يجوز أن يكون قوم آمنوا وإن قلوا. وإنما اخبر الله بالاستهزاء عن الأكثر، ولذلك قال في موضع " ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " (1) وأيضا فكان يجوز أن يكون لولا إرسالهم لوقع منهم من المعاصي أضعاف ما وقع عند إرسالهم، فصار إرسالهم لطفا في كثير من القبائح، فلذلك وجب وحسن، على أن في إرسالهم تمكينهم مما كلفوه، لأنه إذا كان هناك مصالح لا يمكنهم معرفتها إلا من جهة الرسل وجب على الله أن يبعث إليهم الرسل ليعرفوهم تلك المصالح، فإذا لم يؤمنوا بهم وبما معهم من المصالح أتوا بالقبائح من قبل نفوسهم، والحجة قائمة عليهم وقوله " فأهلكنا أشد منهم بطشا " اخبار منه تعالى انه أهلك الذين هم أشد

(1) سورة 11 هود آية 40
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»
الفهرست