عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٢٨٦
القنطرة المذكورة غير الصراط، ولا من تتمته كما ذكرنا، وقوله: ولئن ثبت، ولم يثبت ذلك، فلا حاجة إلى التأويل الذي ذكره. قوله: (فيتقاصون)، بتشديد الصاد المهملة: من القصاص، يعني: يتبع بعضهم بعضا فيما وقع بينهم من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا في كل نوع من المظالم المتعلقة بالأبدان، والأموال. وقال ابن بطال: المقاصة في هذا الحديث هي لقوم دون قوم، هم قوم لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم، لأنها لو استغرقت جميع حسناتهم لكانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم: خلصوا من النار، فمعنى الحديث، والله أعلم، على الخصوص لمن لم يكن لهم تبعات يسيرة، إذ المقاصة أصلها في كلام العرب مقاصصة، وهي مفاعلة، ولا يكون أبدا إلا بين اثنين: كالمشاتمة والمقاتلة، فكان لكل واحد منهم على أخيه مظلمة، وعليه له مظلمة، ولم يكن في شيء منها ما يستحق عليه النار فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته، فيدخلون الجنة ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد منهم من الحسنات، فلهذا يتقاصصون بعد خلاصهم من النار لأن أحدا لا يدخل الجنة ولأحد عليه تباعة، وقال المهلب: هذه المقاصة إنما تكون في المظالم في الأبدان، من اللطمة وشبهها مما يمكن فيه أداء القصاص بحضور بدنه، فيقال للمظلوم: إن شئت أن تنتصف وإن شئت أن تعفو. وقال غيره: لا قصاص في الآخرة في العرض والمال وغيره إلا بالحسنات والسيئات. قيل: فيه نظر، لأن أبا الفضل ذكر في كتاب (الترغيب والترهيب) بسند صالح عن سعيد بن المسيب، رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا فرغ الله من القضاء أقبل على البهائم حتى إنه ليجعل للجماء التي نطحتها القرناء قرنين فتنطح بهما الأخرى، ويقال: معنى يتقاصون يتتاركون، لأنه ليس موضع مقاصة ولا محاسبة، لكن يلقي الله، عز وجل، في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض، أو يعوض الله بعضهم من بعض. قوله: (حتى إذا نقوا)، بضم النون وتشديد القاف: من التنقية، وهو إفراد الجيد من الرديء، ووقع للمستملي هنا: حتى إذا تقصوا، بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الصاد المهملة، أي: أكملوا التقاص. قوله: (وهذبوا)، على صيغة المجهول من التهذيب، وهو التلخيص من الآثام بمقاصصة بعضهم ببعض، ويشهد لهذا الحديث قوله في حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، الآتي ذكره في التوحيد: لا يحل لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد قبله مظلمة.
فإن قلت: ذكر الدارقطني حديثا فيه: أن الجنة بعد الصراط، وهذا يعارض حديث القنطرة؟ قلت: لا، لأن المراد بعد الصراط الثاني هو القنطرة كما ذكرنا. فإن قلت: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أصحاب الحشر محبوسون بين الجنة والنار، يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم، وهذا يعارض حديث الباب. قلت: لا، لأن معناهما مختلف لاختلاف أحوال الناس، لأن من المؤمنين من لا يحبسون بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة. قوله: (لأحدهم)، اللام فيه للتأكيد، وهي مفتوحة، وأحدهم مرفوع بالابتداء، فخبره قوله: أدل بمنزله الذي كان في الدنيا، قال المهلب: انما، كان أدل، لأنهم عرفوا مساكنهم، بتعريضها عليهم بالغداة والعشي. فإن قلت: يعارض هذا ما روي عن عبد الله ابن سلام: أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة. قلت: لا تعارض، فإن هذا يكون ممن لم يحبس على القنطرة ولم يدخل النار أو يخرج منها فيطرح على باب الجنة، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الجميع، فإذا وصلت بهم الملائكة، كان كل أحد عرف بمنزله، وهو معنى قوله تعالى: * (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) * (محمد: 6). وقال أكثر أهل التفسير إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم، فهم أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا. وقيل: إن هذا التعريف إلى المنازل بدليل، وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه، وحديث الباب يرده، فلينظر.
وقال يونس بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أبو المتوكل يونس بن محمد: هو أبو محمد المؤدب البغدادي، وشيبان هو ابن عبد الرحمن النحوي يكنى أبا معاوية، سكن الكوفة وأصله بصري وكان مؤدبا لبني داود بن علي، مات ببغداد سنة أربع وستين ومائة، وأبو المتوكل الناجي قد مر عن قريب، وهذا تعليق وصله ابن منده في (كتاب الإيمان) وأراد البخاري به بيان سماع قتادة لهذا الحديث من أبي المتوكل بطريق التحديث وفي (التلويح): رواه أيضا أبو نعيم الحافظ عن أبي علي محمد بن أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن الحسين بن ميمون بن محمد المروزي حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا أبو المتوكل، فذكره. قيل: أبو نعيم رواه عن إسحاق بن الحسين بن محمد.
(٢٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 291 ... » »»