عمدة القاري - العيني - ج ١١ - الصفحة ٨٤
أعمالهم، وفيها: تنزل أرزاقهم). رواه البيهقي في كتاب (الأدعية) وقال: فيه بعض من يجهل. وروى الترمذي من حديث صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (سئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان، لتعظيم رمضان. وسئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان). ثم قال: حديث غريب، وصدقة ليس عندهم بذاك القوي، وقد روي أن هذا الصيام كان لأنه كان يلتزم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، كما قال ابن عمر، فربما يشتغل عن صيامها أشهرا فيجمع ذلك كله في شعبان، فيتداركه قبل رمضان، حكاه ابن بطال، وقال الداودي: أرى الإكثار فيه أنه ينقطع عنه التطوع برمضان، وقيل: يجوز أنه كان يصوم صوم داود عليه السلام، فيبقى عليه بقية يعملها في هذا الشهر.
وجمع المحب الطبري فيه ستة أقوال: أحدها: أنه كان يلتزم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما تركها فيتداركها فيه. ثانيها: تعظيما لرمضان. ثالثها: أنه ترفع فيه الأعمال. رابعها: لأنه يغفل عنه الناس. خامسها: لأنه تنسخ فيه الآجال. سادسها: أن نساءه كن يصمن فيه ما فاتهن من الحيض فيتشاغل عنه به، والحكمة في كونه لم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجوبه. فإن قلت: صح في مسلم: أفضل الصوم بعد رمضان شهر الله المحرم، فكيف أكثر منه في شعبان؟ ويعارضه أيضا رواية الترمذي: (أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان). قلت: لعله كان يعرض له فيه إعذار من سفر أو مرض أو غير ذلك، أو لعله لم يعلم بفضل المحرم إلا في آخر عمره قبل التمكن منه، ولأن ما رواه الترمذي لا يقاوم ما رواه مسلم.
قوله: (أكثر صياما) كذا هو بالنصب عند أكثر الرواة، وحكى السهيلي أنه روي بالخفض، قيل: هو وهم، ولعل بعض النساخ كتب الصيام بغير ألف على رأي من يقف على المنصوب بغير ألف فتوهم مخفوضا، أو ظن بعض الرواة أنه مضاف إليه، فلا يصح ذلك، وأما لفظة: أكثر، فإنه منصوب لأنه مفعول ثان لقوله: (وما رأيته). قوله: (من شعبان)، وزاد يحيى بن أبي كثير في روايته: (فإنه كان يصوم شعبان كله)، وزاد ابن أبي لبيد: (عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان، فإنه كان يصوم شعبان إلا قليلا). وفي رواية الترمذي عن أبي سلمة (عن عائشة، أنها قالت: ما رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في شهر أكثر صياما فيه في شعبان، كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله). انتهى.
قالوا: معنى: كله، أكثره، فيكون مجازا. قلت: فيه نظر من وجوه: الأول: أن هذا المجاز قليل الاستعمال جدا. والثاني: أن لفظة: كل، تأكيد لإرادة الشمول، وتفسيره بالبعض مناف له. والثالث: أن فيه كلمة الإضراب، وهي تنافي أن يكون المراد الأكثر، إذ لا يبقى فيه حينئذ فائدة، والأحسن أن يقال فيه: إنه باعتبار عامين فأكثر، فكان يصومه كله في بعض السنين، وكان يصوم أكثره في بعض السنين، وذكر بعض العلماء إنه وقع منه صلى الله عليه وسلم وصل شعبان برمضان وفصله منه وذلك في سنتين فأكثر، وقال الغزالي في (الإحياء): فإن وصل شعبان برمضان فجائز، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وفصل مرارا كثيرة، انتهى. قلت: على هذا الوجه يبعد وجوده منصوصا عليه في الحديث، نعم، وقع منه الوصل والفصل، أما الوصل فهو في حديث الترمذي عن أبي سلمة (عن أم سلمة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان). وأما الفصل ففي حديث أبي داود من رواية عبد الله بن أبي قيس (عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام). وأخرجه الدارقطني، وقال: (هذا إسناد صحيح، والحاكم في المستدرك، وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وروى الطبراني من حديث أبي أمامة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان). ورجال إسناده ثقات، وروي أيضا من حديث أبي ثعلبة بلفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان ورمضان يصلهما). وفي إسناده الأحوص بن حكيم وهو مختلف فيه، وروي أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ حديث أبي أمامة وفي إسناده يوسف بن عطية وهو ضعيف.
فإن قلت: كيف التوفيق بين هذه الأحاديث وبين حديث أبي هريرة الذي رواه أصحاب السنن؟ فأبو داود من حديث الدراوردي والترمذي كذلك، والنسائي من رواية أبي العميس، وابن ماجة من رواية مسلم بن خالد، كلهم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا)، هذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، ولفظ النسائي:
(٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 ... » »»