عمدة القاري - العيني - ج ٩ - الصفحة ١٢٧
الذي فيه ذكر الزاد والراحلة ليس بمتصل؟ قلت: الحديث الذي ذكرناه متصل. فإن قلت: قال ابن المنذر أيضا: والدليل على عدم اعتبار الراحلة حديث: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)، فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة؟ قلت: لا نسلم ذلك، فإن الحديث مفسر للاستطاعة في الآية، وهو مبين عن الله تعالى: فإن قلت: قال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلا كان في موضع يمكنه المشي إلى الحج وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج لأنه مستطيع إليه سبيلا. قلت: لا نسلم ذلك، لأن الاستطاعة فسرت بالزاد والراحلة. فإن قلت: ما روي عن السلف في ذلك أن السبيل الزاد والراحلة، وإنما أرادوا به التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج قلت: لا نسلم ذلك، بل أرادوا به التشريع؟
وفيه: ما يدل على أنه ما يجوز للرجل إن يحج عن غيره، وإن لم يكن حج عن نفسه لإطلاق الحديث ولم يسأله صلى الله عليه وسلم أحججت عن نفسك أم لا؟ وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ويحكى كذلك عن الحسن وإبراهيم وأيوب وجعفر بن محمد، وقال الأوزاعي والشافعي وإسحاق: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام. وقال عبد العزيز: يقع الحج باطلا ولا يصح عنه، ولا عن غيره، وروي ذلك عن ابن عباس، وفي (مسند الشافعي): حدثنا سعيد بن سالم عن سفيان بن سعيد عن طارق بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: سألته عن الرجل لم يحج إيستقرض للحج؟ قال: لا. واحتجوا بما رواه أبو داود (عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي؟ فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، وحج عن شبرمة). وروي أيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرورة في الإسلام)، والجواب عنه ما قاله الطحاوي: إن حديث شبرمة معلول، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، والذي يصح في هذا المعنى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من رواية ابن عباس: سئل عن رجل لم يحج أيحج عن غيره؟ فقال: دين الله، عز وجل، أحق أن يقضيه، وليس فيه أنه لو أحرم عن غيره كان ذلك الإحرام عن نفسه، وقال بعضهم: يحمل على الندب لقوله، صلى الله عليه وسلم: (إبدأ بنفسك ثم بمن تعول). وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: رفعه عبدة بن سليمان وهو خطأ، وقد رواه عدة موقوفا على ابن عباس ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية همام عن قتادة عن سعيد بن جبير موقوف، وكذا قال أبو قلابة عن ابن عباس وقال: منهيء، قلت: لأبي عبد الله حديث عبدة بن سليمان عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن ابن جبير عن ابن عباس: سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، رجلا يلبي عن شبرمة، قال: ليس بصحيح، إنما هو عن ابن عباس، حدثني غير واحد عن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن ابن عباس مرسلا، ورواه روح عن حماد بن مسلمة عن أيوب عن عكرمة، ورواه عن ابن عباس مرسلا، ورواه إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ابن عباس. فإن قلت: قال أبو عمر: الذي رفعه حافظ حفظ ما قصر عنه غيره، فوجب قبول زيادته. وقال ابن قطان: الرافعون له ثقات فلا يضرهم وقف الواقفين له، إما لأنهم حفظوا ما لم يحفظه أولئك، وإما لأن الواقفين رووا عن ابن عباس رواية وأولئك رواية. قلت: هذا الحديث مما يعلم بالضرورة توقيفه لأن الحج إنما كان في سنة عشر سنة حج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمع الرجل يلبي عن غيره في تلك الحجة، فكيف يسوغ؟ قوله: (أحججت عن نفسك؟) إيحج أحد إلى غير البيت؟ وفي غير ذلك الوقت؟ فليتأمل هذا فإنه واضح. وروى الدارقطني من حديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاووس: (عن ابن عباس: سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، رحلا يلبي عن نبيشة، فقال: أيها الملبي عن نبيشة، هذه عن نبيشة، واحجج عن نفسك). قال الدارقطني: الحسن متروك الحديث، والمحفوظ الصحيح عن ابن عباس حديث شبرمة. وذكر أبو نعيم الأصبهاني: شبرمة هذا في كتاب الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وذكر له هذا الحديث، وأنه توفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: (لا صرورة في الإسلام) فقد قال الخطابي: إن الصرورة هو الذي أقلع عن النكاح بالكلية وأعرض عنه كرهبان النصارى، وله معنى آخر، وهو أنه: الذي لم يحج فيكون معناه: أن سنة الدين أن لا يبقى من الناس من يستطيع الحج إلا ويحج، وهذا ليس فيه دليل على أن من لم يحج
(١٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131 132 ... » »»