عمدة القاري - العيني - ج ٩ - الصفحة ٤٧
الصدقة التي أمر بقبضها منه، وذلك لأن أحد الأصناف: سبيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها في الحال كصرفها في المآل. قوله: (قد احتبس) أي: حبس (أدراعه)، جمع: درع. قوله: (وأعبده)، بضم الباء الموحدة: جمع عبد، حكاه عياض، والمشهور: أعتده، بضم التاء المثناء من فوق، جمع: عتد، بفتحتين. ووقع في رواية مسلم: أعتاده، وهو أيضا جمع: عتد. قيل: هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة، يقال: فرس عتيد، أي: صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب. قوله: (وأما العباس بن عبد المطلب) فأخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه عمه، وعم الرجل صنو أبيه، وعن الحكم بن عتيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، مصدقا، فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن الخطاب! أما علمت أن عم الرجل صنو الأب؟ وأنا استسلفنا زكاته عام الأول؟ ومعنى: صنو أبيه: أصله وأصل أبيه واحد، وأصل ذلك أن طلع النخلات من عرق واحد. قوله: (فهي عليه صدقة)، معناه: هي صدقة ثابتة عليه سيتصدق بها ومثلها معها، أي: ويتصدق مثل هذه الصدقة معها كرما منه، إ لا امتناع منه ولا بخل فيه، وقيل: معناه فأمواله هي كالصدقة عليه لأنه استدان في مفاداة نفسه، وعقيل، فصار من الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة، وقيل: إن القصة جرت في صدقة التطوع فلا إشكال عليه، لكنه خلاف المشهور وما عليه الروايات.
ثم إعلم أن لفظة الصدقة إنما وقعت في رواية شعيب عن أبي الزناد كما مرت. وقال البيهقي، في رواية شعيب هذه: يبعد أن تكون محفوظة لأن العباس كان من صلبية بني هاشم ممن تحرم عليه الصدقة، فكيف يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه من صدقة عامين صدقة عليه؟ وقال المنذري: لعل ذلك قبل تحريم الصدقة على آل النبي، صلى الله عليه وسلم، فرأى إسقاط الزكاة عنه عامين لوجه رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الخطابي: هذه لفظة لم يتابع عليها شعيب بن أبي حمزة، ورد عليه بأن اثنين تابعا شعيبا: أحدهما: عبد الرحمن بن أبي الزناد، كما سيأتي عن قريب، والآخر: موسى بن عقبة، فيما رواه النسائي عن عمران: حدثنا علي ابن عياش عن شعيب.. وساقه بلفظ البخاري، قال: وأخبرني أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني إبراهيم عن موسى أخبرني أبو الزناد عن الأعرج (عن أبي هريرة، قال: أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بصدقة...) الحديث، وفي آخره: (فهي عليه صدقة ومثلها معها).
واعلم أيضا أنه وقع اختلاف في هذا اللفظ، ففي لفظ وقع: مثلها، في متن حديث الباب، وفي لفظ: (فهي له ومثلها معها)، وفي لفظ: (فهي علي ومثلها معها)، وفي لفظ: (فهي عليه ومثلها معها). أما معنى الذي في متن حديث الباب أي: (فهي عليه صدقة) واجبة فأداها قبلمحلها (ومثلها معها): أي: قد أداها لعام آخر، كما ذكرناه عن الحكم آنفا. وأما معنى: (فهي له ومثلها معها)، وهي رواية موسى بن عقبة، أي: فهي عليه، قيل: عليه وله بمعنى واحد، كما في قوله تعالى: * (ولهم اللعنة) * (غافر: 25). وفي قوله: * (وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7). ويحتمل أن يكون: فهي له، أي فهي له علي، ويحتمل أنها كانت له عليه إذا كان قدمها. وأما معنى قوله: (فهي علي ومثلها معها)، أي: فهذه الصدقة علي بمعنى: أؤديها عنه لما له علي من الحق، خصوصا له، ولهذا قال: عم الرجل صنو أبيه، وأما معنى: (فهي عليه ومثلها معها)، وهي رواية ابن إسحاق، قال أبو عبيد: نراه، والله أعلم، أنه كان أخر الصدقة عنه عامين من أجل حاجة العباس فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظرة ثم يأخذها منه بعد، كما فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، بصدقة عام الرمادة، فلما أجبى الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. وقيل: إنما تعجل منه لأنه أوجبها عليه وضمنها إياه ولم يقبضها منه، فكانت دينا على العباس. ألا ترى قوله: (فإنها عليه ومثلها معه؟) قال ابن الجوزي: قال لنا ابن ناصر: يجوز أن يكون قد قال: هو عليه، بتشديد الياء، وزاد فيها هاء السكت.
ذكر ما يستفاد منه فيه: إثبات الزكاة في أموال التجارة. وفيه: دليل على جواز أخذ القيمة عن أعيان الأموال. وفيه: جواز وضع الصدقة في صنف واحد. وفيه: جواز تأخير الزكاة إذا رأى الإمام فيه نظرة. وفيه: جواز تعجيل الزكاة. وقال أبو علي الطوسي: اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل محلها، فرأى طائفة من أهل العلم أن لا يعجلها، وبه يقول سفيان، وقال أكثر أهل العلم: إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو مذهب أبي حنيفة وقال ابن المنذر: وكره مالك والليث بن سعد تعجيلها قبل وقتها، وقال الحسن: من زكى قبل الوقت أعاد، كالصلاة. وفي (التوضيح): وعند مالك في إخراجها قبل الحول بيسير قولان، وحد القليل بشهر ونصف شهر وخمسة أيام وثلاثة. وفيه: تحبيس آلات الحرب والثياب وكل ما ينتفع به مع بقاء عينه والخيل والإبل كالأعبد، وفي تحبيس غير العقار
(٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 ... » »»