عمدة القاري - العيني - ج ٧ - الصفحة ٦٥
جابر أولى لأن فيه زيادة، والأخذ بالزيادة في روايات الثقات أولى وأجدر. فنقول: وإن كان الأمر هذا، ولكن الأخذ بما يوافق الأصول أولى. وأعجب من هذا أن هذا القائل ادعى اتحاد القصة، وقد أبطلنا ذلك عن قريب.
الثاني من الوجوه: الاستدلال بقوله: (حتى انجلت)، على إطالة الصلاة، حتى يقع الانجلاء، ولا تكون الإطالة إلا بتكرار الركعات والركوعات وعدم قطعها إلى الانجلاء، وأجاب الطحاوي عن ذلك بأنه قد قال في بعض الأحاديث: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف). ثم روى بإسناده، حديثا عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد أراه قال: ولا لحياته فإذا رأيتم مثل ذلك فعليكم بذكر الله والصلاة). فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد منهم مجرد الصلاة، بل أراد منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار وغير ذلك، نحو: الصدقة والعتاقة. وقال بعضهم بعد أن نقل بعض كلام الطحاوي في هذا: وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين، ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل منهما على انفراده. فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة، فيصير غاية للمجموع ولا يلزم منه تطويل الصلاة ولا تكريرها. قلت: في الحديث أعني حديث أبي بكرة: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، فقد ذكر الصلاة والدعاء بواو الجمع، فاقتضى أن يجمع بينهما إلى وقت الانجلاء قبل الخروج من الصلاة، وذلك لا يكون إلا بإطالة الركوع والسجود بالذكر فيهما وبإطالة القراءة أما إطالة الركوع والسجزد فقد وردت في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، في رواية مسلم: (ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه). وفي رواية البخاري أيضا: (ثم سجد سجودا طويلا). وقال أيضا (فصلى بأطول قيام وركوع وسجود). وأما إطالة القراءة ففي حديث عائشة: (فأطال القراءة)، وفي حديث ابن عباس: (فقام قياما طويلا قدر نحو سورة البقرة)، ولا يشك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في طول قيامه ساكتا، بل كان مشتغلا بالقراءة وبالدعاء، وإذا مد الدعاء بعد خروجه من الصلاة لا يكون جامعا بين الصلاة والدعاء في وقت واحد، لأن خروجه من الصلاة يكون قاطعا للجمع، ولا شك أن الواو تدل على الجمع، وقد وقع في رواية النسائي من حديث النعمان بن بشير، قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت). فهذا يدل على أن إطالته صلى الله عليه وسلم كانت بتعداد الركعات، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون معنى قوله: (ركعتين) أي: ركوعين وأن يكون السؤال وقع بالإشارة فلا يلزم التكرار قلت: مراد هذا القائل الرد على الحنفية في قولهم أن صلاة الكسوف كسائر الصلوات بلا تكرار الركوع، لما ذكرنا وجه ذلك، ولا يساعده ما يذكره لأن تأويله: ركعتين بركوعين، تأويل فاسد باحتمال غير ناشيء عن دليل، وهو مردود. فإن قلت: فعلى ما ذكرت فقد دل الحديث على أنه يصلي للكسوف ركعتان بعد ركعتين، ويزاد أيضا إلى وقت الانجلاء، فأنتم ما تقولون به؟ قلت: لا نسلم ذلك، وقد روى الحسن عن أبي حنيفة: إن شاؤوا صلوا ركعتين، وإن شاؤوا صلوا أربعا، وإن شاؤوا صلوا أكثر من ذلك، ذكره في (المحيط) وغيره، فدل ذلك على أن الصلاة إن كانت بركعتين يطول ذلك بالقراءة والدعاء في الركوع والسجود إلى وقت الانجلاء، وإن كانت أكثر من ركعتين فالتطويل يكون بتكرار الركعات دون الركوعات، وقول القائل المذكور، وإن يكون السؤال وقع بالإشارة؟ قلت: يرد هذا ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه صلى الله عليه وسلم كلما ركع ركعة أرسل رجلا لينظر: هل انجلت؟ قلت: فهذا يدل على أن السؤال في حديث النعمان كان بالإرسال لا بالإشارة، وأنه كلما كان يصلي ركعتين على العادة يرسل رجلا يكشف عن الانجلاء. فإن قلت: قوله: (ركع ركعة)، يدل على تكرار الركوع قلت: لا نسلم ذلك، بل المراد كلما ركع ركعتين من باب إطلاق الجزء على الكل، وهو كثير فلا يقدر المعترض على رده.
الثالث: في هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وقال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله تعالى، ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.
الرابع: فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته وشدة الخوف من آية الله تعالى، عز وجل. الخامس: فيه ما يدل على أن جر الثوب لا يذم إلا من قصد به الخيلاء، كما صرح بذلك في غير هذا الحديث. السادس: فيه المبادرة إلى طاعة الله تعالى، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كيف قام، وهو يجر رداءه مشتغلا بما نزل؟ السابع: قالوا: وفيه دلالة على أنه يجمع في
(٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 ... » »»