عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ١٠٧
وهو مذهب العلماء كافة إلا أبا ثور، فإنه جوزه، ووافقه أبو الفرج المالكي، رحمه الله تعالى، واستضعفه النووي لوجهين: أحدهما: المراد بالنداء ههنا الإعلام.
الثاني: المراد: قم واذهب إلى موضع بارز فناد فيه بالصلاة، وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان. قال النووي: ومذهبنا المشهور أنه سنة، فلو أذن قاعدا بغير عذر صح أذانه، لكن فاتته الفضيلة ولم يثبت في اشتراط القيام شيء. وفي كتاب أبي الشيخ، بسند لا بأس به عن وائل بن حجر، قال: حق وسنة مسنونة ألا يؤذن إلا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم. وفي (المحيط): إن أذن لنفسه فلا بأس أن يؤذن قاعدا من غير عذر، مراعاة لسنة الأذان وعدم الحاجة إلى إعلام الناس، وإن أذن قاعدا لغير عذر صح، وفاتته الفضيلة، وكذا لو أذن قاعدا مع قدرته على القيام صح أذانه، وفيه: دليل على مشروعية طلب الأحكام من المعاني المستنبطة دون الاقتصار على الظواهر. وفيه: منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. وفيه: التشاور في الأمور المهمة، وأنه ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم صاحب الأمر يفعل ما فيه المصلحة. وفيه: التحين لأوقات الصلاة.
فوائد: الأولى: الاستشكال في إثبات الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، لأن رؤيا غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لا يبني عليها حكم شرعي، والجواب: مقارنة الوحي لذلك، وفي مسند الحارث بن أبي أسامة: (أول من أذن بالصلاة جبريل، عليه الصلاة والسلام، في السماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، رضي الله تعالى عنهما، فسبق عمر بلالا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: سبقك بها عمر). وقال الداودي: (روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، عليه الصلاة والسلام، بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام). ذكره ابن إسحاق، قال: وهو أحسن ما جاء في الأذان، وقد ذكرنا في أول الباب أن الزمخشري نقل عن بعضهم أن الأذان بالوحي لا بالمنام وحده. وفي كتاب أبي الشيخ: من حديث عبد العزيز بن عمران عن أبي المؤمل عن أبي الرهين عن عبد الله بن الزبير قال: (أخذ الأذان من أذان إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، * (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا...) * (الحج: 27). الآية، قال: فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال السهيلي: الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل. ولم يكن بوحي، فلأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء فوق سبع سماوات، وهو أقوى من الوحي. فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة، وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة، فلبث الوحي حتى رأى عبد الله الرؤيا، فوافقت ما كان رآه في السماء، قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى). وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض، وقوي ذلك موافقة رؤيا عمر، مع أن السكينة تنطق على لسان عمر، رضي الله تعالى عنه، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على غير لسان النبي صلى الله عليه وسلم، لما فيه من التنويه بعبده، والرفع لذكره، فلأن يكون ذلك على لسان غيره أنوه وأفخر لشأنه، وهو معنى قوله تعالى: * (ورفعنا لك ذكرك) * (الشرح: 2). وروى عبد الرزاق وأبو داود في (المراسيل): من طريق عبيد ابن عمير الليثي، أحد كبار التابعين: (أن عمر، رضي الله تعالى عنه، لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بذلك الوحي).
الثانية: هل أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط بنفسه؟ فروى الترمذي من طريق يدور على عمر بن الرماح يرفعه إلى أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى بأصحابه، وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبلة من أسفلهم). هكذا قاله السهيلي. وقال صاحب (التلويح): هذا الحديث لم يخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، كما ذكره السهيلي، وإنما هو عنده من حديث عمر بن الرماح: عن كثير بن زياد عن عمرو بن عثمان بن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه عن جده، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، تفرد به عمر بن الرماح البلخي، لا يعرف إلا من حديثه، ومن هذه الطريقة أخرجه البيهقي وضعفه، وكذا ابن العربي، وسكت عنه الإشبيلي، وعاب ذلك عليه ابن القطان بأن عمرا وأباه عثمان لا يعرف حالهما. ولما ذكره النووي صححه؛ ومن حديث يعلى أخرجه أحمد في (مسنده)، وأحمد بن منيع وابن أمية والطبراني في (الكبير) و (الأوسط) والعدني، وفي (التاريخ) للأثرم، و (تاريخ الخطيب) وغيرهم، وقال الذهبي: يعلى بن مرة بن وهب الثقفي بايع تحت الشجرة وله دار بالبصرة.
الثالثة: الترجيع في الأذان، وهو أن يرجع ويرفع صوته بالشهادتين بعدما خفض بهما، وبه قال الشافعي ومالك، إلا إنه لا يؤتى بالتكبير في أوله. إلا مرتين. وقال أحمد: إن رجع فلا بأس به، وإن لم يرجع فلا بأس به. وقال أبو إسحاق
(١٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 102 103 104 105 106 107 108 109 109 109 109 ... » »»