عوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج ١ - الصفحة ٢٤٩
(6) وروى أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " ناجى داود ربه فقال: الهى لكل ملك خزانة، فأين خزانتك؟ فقال جل جلاله: لي خزانة أعظم من العرش وأوسع من الكرسي، وأطيب من الجنة، وأزين من الملكوت:
أرضها المعرفة، وسمائها الايمان، وشمسها الشوق وقمرها المحبة، ونجومها الخواطر، وسحابها العقل، ومطرها الرحمة وأشجارها الطاعة، وثمرها الحكمة ولها أربعة أبواب: العلم والحلم والصبر والرضا. الا وهي القلب " (1)

(١) يأتي في آخر الحديث انها القلب. وليعلم أن القلب كما حققه طائفة من أرباب القلوب يطلق على معنيين. أحدهما اللحم الصنوبري المشكل المودع في جانب الأيسر من الصدر وهو لحم مخصوص، وفى باطنه تجويف. وفى ذلك التجويف دم أسود، وهو منبع الروح ومعدنه وهذا المعنى للقلب موجود للبهائم، بل للميت، و ليس هو المراد في هذا الباب.
والمعنى الثاني لطيفة ربانية روحانية، لها بهذا القلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي المعبر عن القلب تارة، وبالنفس أخرى وبالروح أخرى، وبالانسان أيضا وبالعقل أيضا. وله علاقة مع القلب الجسداني. وقد تحير عقول أكثر الناس في ادراك وجه علاقته، وان تعلقه به يضاهى تعلق الاعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة أو تعلق المتمكن بالمكان وحيث يطلق القلب في الكتاب والسنة، فالمراد منه هذا المعنى الذي يفقه ويعلم وقد يكنى عنه بالقلب في الصدر، كما قال الله تعالى: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وذلك لما عرفت من العلاقة الواقعة بينه وبين جسم القلب، وانها وان كانت متعلقة بساير البدن ومستعملة له، ولكنها تتعلق به بواسطة القلب فتعلقها الأول بالقلب فكأنه محله ومملكته وعالمه ومطيته، ولذلك شبه بعض العلماء القلب بالعرش والصدر بالكرسي، وأراد به أنه مملكته والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه فهما بالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله. وهذا التشبيه من بعض الوجوه وهذا المعنى من القلب والجسد بمنزلة الملك، وله فيه جنود وأعوان، وأضداد وأوصاف، وله قبول للاشراق والظلمة، كالمرأة الصافية التي تقبل انطباع الصور و الاشكال المقابلة لها، وتقبل الظلمة والفساد بسبب العوارض الخارجة المنافية لجوهرها وربما وصل اشراقه واستنارته إلى حد يحصل فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الامر المطلوب. والى مثل هذا القلب، الإشارة بقوله: (إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه) ومثال الآثار المذمومة الواصلة إليه المانعة له من الاستنارة وقبول الاسرار مثال دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة مرة بعد أخرى حتى تظلم وجه المرأة، وكذلك القلب يصير مظلما محجوبا عن الله وعن قبول أسراره، وهو الطبع والرين في قوله تعالى: " ان لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم " وقال (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) فعند ذلك يعمى القلب عن ادراك الحق، ويصير الهمة على أمور الدنيا ولا يسمع المواعظ والزواجر الأخروية وهذا معنى اسوداد القلب بالذنوب. قال الباقر عليه السلام: (ان القلوب ثلاثة قلب منكوس لا يعي شيئا من الخير، وهو قلب الكافر. وقلب فيه نكتة سوداء ونكتة بيضاء فالخير والشر فيه يختلجان، فأيهما كانت معه، غلب عليه. وقلب مفتوح، فيه مصابيح تزهر لا يطفئ إلى يوم القيامة) فانظر إلى قوله (لا يطفئ إلى يوم القيامة). فان هذا حكم نور القلب بالمعنى الثاني، لأنه باق وان خرب البدن، بخلاف الأول. قال شيخنا الزيني قدس الله ضريحه:
ان القلب مثاله مثال حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو، الا بحراسة أبواب الحصن ومداخله، ومواضع تهمه فينبغي الاهتمام بمعرفة ذلك والامر الجامع له الاقبال على الله وتخيل انه واقف بين يديه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فإذا تحققت ذلك انسدت الأبواب دون وساوس اللعين، وأقبل القلب على الله. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله. (ان العبد إذا اشتغل بالصلاة جاء الشيطان، وقال له: اذكر كذا اذكر كذا حتى يضل الرجل ان يدرى كم صلى). ومن هنا ظهر لك أن مجرد التلفظ بالذكر باللسان، ليس هو الزاجر للشيطان، بل لابد معه من عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة التي هي أعوان إبليس وجنده، والا فالذكر من أقوى مداخل الشيطان، وكذلك غيره من العبادات، ولذلك قوله تعالى: (ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). فخصص ذلك بالمتقي.
وتأمل أنت في منتهى ذكرك وعبادتك وأفضل أعمالك وهو الصلاة، فليس الخبر كالعيان، فراقب قلبك إذا كنت في الصلاة كيف يتجاذبه الشيطان في الأسواق والبساتين وحساب المعاملين وجواب المعاندين وغيرهم، وكيف يمر بك في أودية الدنيا ومهالكها حتى انك لا تتذكر ما نسيته من فضول الدنيا الا في صلاتك، ولا يزدحم الشيطان على قلبك الا إذا صليت فلا جرم لا يطرد عنك الشيطان بمجرد صورة العبادة وان تأدى بها الواجب عليك وخرجت من عهدة الامر، الامر الإلهي، بل لابد في دفعه مع ذلك من اصلاح الباطن من الرذايل التي هي أعوانه وجنده، والألم يزد الا ضررا، كما أن الدواء قبل الاحتمال لا يزيد المريض الا مرضا، ثم بعد ذلك يتصف بالفضائل ويصير قلبه قابلا للاقبال مشفقا من التفريط والاهمال، قال الله تعالى: (الا بذكر الله تطمئن القلوب). واجعل هذه العلامة بينك وبين استقامة قلبك واقباله. وفقنا الله وإياك على بساط الاستقامة بمحمد وآله الخ (جه).
(٢٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 244 245 246 247 248 249 252 253 254 255 256 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 رسالة الردود والنقود على الكتاب والمؤلف مقدمة المؤلف وفيها فصول: 1
2 الفصل الأول: في كيفية اسناد المصنف وروايته لجميع ما ذكره من الأحاديث إلى المشايخ. 5
3 الفصل الثاني: في السبب الداعي إلى جمع هذه الأحاديث. 15
4 الفصل الثالث: فيما رواه بطريق الاسناد المتصل اسناده بطريق العنعنة دون الإجارة والمناولة. 21
5 الفصل الرابع: فيما رواه بطرقه المذكورة محذوفة الاسناد. 30
6 الفصل الخامس: في أحاديث تتعلق بمعالم الدين وجملة من الآداب. 81
7 الفصل السادس: في أحاديث أخرى من هذا الباب رواها بطريق واحد. 95
8 الفصل السابع: في أحاديث تتضمن مثل هذا السياق رواها بطريقها من مظانها 107
9 الفصل الثامن: في أحاديث تشتمل على كثير من الآداب ومعالم الدين روايتها تنتهي إلى النبي (ص). 128
10 الفصل التاسع: في أحاديث تتضمن شيئا من أبواب الفقه ذكرها بعض الأصحاب في بعض كتبه. 195
11 الفصل العاشر: في أحاديث تتضمن شيئا من الآداب الدينية. 246
12 الباب الأول ومنه أربعة مسالك: 299
13 المسلك الأول: في أحاديث ذكرها بعض متقدمي الأصحاب رواها عنه بطريقه إليه. 301
14 المسلك الثاني: في أحاديث تتعلق بمصالح الدين رواها جمال المحققين في بعض كتبه. 349
15 المسلك الثالث: في أحاديث رواها الشيخ محمد بن مكي في بعض مصنفاته تتعلق بأحوال الفقه. 380