ديوان السيد حيدر الحلي - السيد حيدر الحلي - ج ١ - الصفحة ٥
شعره وشاعريته لعل التحدث عن شاعرية السيد حيدر في غنى عن البسط والتحليل بالنظر لما عرفه الأدباء وغيرهم، ولما سمعوه ووعوه من شعره الذي طرق الاسماع وخاصة في الرثاء، فلقد نال إعجاب الجميع وهيمن على مشاعرهم فامتلكها، ولقد كنت يوما في مأتم فتليت قصيدته التي مطلعها:
تركت حشاك وسلوانها * فخلي حشاي وأحزانها برواية جميلة واضحة، فشاهدت جماعة الأدباء قد سادهم إصغاء وتفكير وعند الفراغ سألت الذي عن يميني هل تستطيع أن تعامل هذه الظاهرة في الوقت الذي غمر الناس الحزن في هذا اليوم (عاشر المحرم) أجابني: وكيف تعجب وشعر السيد حيدر يأخذ بالأديب فيحلق به إلى أجواء واسعة من الفن والخيال، كما يشغل التفكير برصفه وحسن انسجامه وبليغ قوله ومليح نكته، وكيف تعجب والسيد حيدر أمير شعراء الرثاء الذين خلدوا مع واقعة الطف خلودا لا يطرأ عليه التلاشي ولا النسيان.
حقا ان السيد حيدر شاعرا مجلسي في كافة الحلبات، فقد كان يشعر بالزعامة الأدبية رغم منافسة أعلام الشعر في النجف له وملاكمتهم إياه، ولعل القصة التي ذكرت غير مرة وهي: عندما رثى العلامة السيد ميرزا جعفر القزويني بقصيدته المعروفة:
قد خططنا للمعالي مضجعا * ودفنا الدين والدنيا معا وسكوت أدباء النجف عن الاستعادة والاستجادة لها دفعه أن يثور ثورته التي خاطب بها الأديب الكبير الشيخ محسن الخضري بقوله: (إذا كان في المجلس من أعتب عليه لصمته وتغافله عن أداء حق هذه المرثية فهو أنت) فلم يبق للشيخ الخضري إلا أن أجابه بقوله:
ميزتني بالعتب بين معاشر * سمعوا وما حي سواي بسامع أخرستني وتقول مالك صامتا * وأمتني وتقول مالك لا تعي مما أوجب أن يتضاءل أمامه الأدباء من خصومه وينسحبوا عن تعصبهم ويضجوا بالاستحسان لمرثيته والاستعادة لها، والإشادة بها.
وما ذلك إلا لان السيد حيدر أديب قرأ الكثير من شعر العرب وحفظ المجلدات من أخبارهم، وتتبع الفصيح من أقوالهم، والمأثور من كلامهم، والبديع من صناعتهم، لذا تراه في شعره فصيح المفردات، قوي التركيب، بديع الصنعة، وقل أن تشاهد شاعرا متأخرا سلم من المعايب كما وقع له، يصطاد اللفظ الرقيق ويقرنه بمعنى أرق منه دون أن تجد نبوة أو حشوة، ومن ذلك فقد فات على بعض الأدباء ملاحظاته وأغراضه الشعرية والتبس عليهم قصده وما يرمي إليه، وهاك مثلا واحدا وهو بيت من مرثيته للإمام أمير المؤمنين علي (ع) وهو:
وانقلب الاسلام للفجر بها * للحشر إعوالا على مصابه بينما الصحيح: وانقلب السلام للفجر، فقد فاتهم قصده الذي لاحظه بالإشارة إلى قوله تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر) من سورة القدر وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ببيتين منها بقوله:
لقد أراقوا ليلة القدر دما * دماؤها انصببن بانصبابه وكثير من أمثال هذا تجده في هامش هذا الديوان مما يتضح لك عدم الالتفات والخطأ الذي وقع في المطبوع.
ولتفوق السيد حيدر ونبوغه أسباب وعوامل شحذت ذهنيته وأذاعت صيته أهمها بيئته التي نبغ فيها وصراعه العنيف مع الشعراء والعلماء، ومراثيه لجده الحسين وتسجيله واقعة الطف فقد كان ينظم فيها بلهجة الأروع الموتور، وللعامل الأخير أبلغ الأثر فقد دفع بكثير من أعلام عصره أن يفضله على كثير من الشعراء الذين تقدموه والذين تأخروا عنه كالسيد الرضي ومهيار وكشاجم والكعبي والكوازين والأعسمين ولقد سبق أن ذكرت في ترجمتي لشيخ الأدب الشيخ حمادي نوح الحلي رأيه وتفضيله لشاعرين: الأول أبو الطيب المتنبي، والثاني السيد حيدر الحلي، كما حدثني أحد شيوخ الأدب اليوم الشيخ قاسم الملا الحلي ما قاله العلامة السيد ميرزا صالح القزويني لصاحب الديوان عند سماعه مرثية منه لبعض الاعلام: إن رثأك يحبب إلينا الموت) (1) وهي كلمة وإن لم تكن مبتكرة ولكنها شهادة قيمة تصدر من زعيم ديني وأديب كبير، وان هيام الأسر العريقة في العراق وخطبهم لوداده واحترامهم له يدلنا بوضوح على ماله من منزله كبرى بين أخدانه من الشعراء الذي كثر عددهم في عهده، ولقد سمع من العلامة الكبير السيد مهدي القزويني أنه كان يمدحه ويثني عليه ويفضله على جميع الشعراء من المتقدمين.

1 - سبق وأن قال مثل هذه الكلمة عضد الدولة البويهي عند سماعه مرثية أبي الحسن التهامي.
وملاحظة واحدة تبينتها في شعر السيد حيدر الحلي هي: توفر فن الاعجاز فيه فتراه كلما كرر على السمع ازداد اشتياقا لسماعه، وهذه الظاهرة لم يحز عليها شاعر من المتأخرين غيره، ولعلي لا أحتاج إلى توضيح ذلك فان ما يلقيه الخطباء على كثرتهم يوميا يخاله المستمع شعرا جديدا.
هذا بالإضافة إلى أنه تفرد عن معاصريه بتوسعه وطرقه لفنون الشعر وأنواعه فقد أجاد في كثير منها، وهذا ما دفعني إلى تبويب الديوان رغم الجهد الذي لاقيته والكلفة التي أحاطت بي مراعيا كل باب على الحروف ومعربا للقارئ عن ميزة الشاعر وتنوعه في النظم، ومنفذا رغبة القارئ وتذوقه هذا اللون من النشر.
(٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 ... » »»