شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٦

رجع عن المحرمات.. ومن طلب الجنة، سارع إلى الطاعات.. ومن زهد في الدنيا، هانت عليه مصائبها.. ألا، وإن لله عبادا شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلا لعقبى راحة طويلة إذا رأيتهم في الليل، رأيتهم صافين أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.. وأما نهارهم فظماء حلماء بررة أتقياء كأنهم القداح.. ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما بهم من مرض، ولكنه الأمر العظيم.
ذلك هو شغله الشاغل ينام هديره ويصحو على زئيره. دين الله الذي حمل أمانته، وقرأ كتابه ويوم الله، الذي سيقف فيه بين يديه غدا، لينظر جزاءه وحسابه.
أو من أجل هذا، لا ينام علي ولا يستريح؟ أجل، من أجل هذا، يقضي ليله ونهاره في عبادة تضني جسمه الأيد الوثيق. ومن أجل هذا، يدع الدنيا وراءه ظهريا، فيأبى وهو خليفة للمسلمين، أن ينزل قصر الإمارة بالكوفة. ويؤثر عليه الأرض الخلاء. والدار المهجورة. ويلحون عليه كي ينزل قصر الإمارة هذا. فيجيبهم، لا قصر الخبال لا أنزله أبدا. ومن أجل هذا، يلبس الثوب الخشن، فيسأله أصحابه أن يعطي نفسه ومنصبه بعض حقهما فيقول: هذا الثوب، يصرف عني الزهو ويساعدني على الخشوع في صلاتي. وهو قدوة صالحة للناس، كي لا يسرفوا ويتبذخوا.
ثم يتلو القرآن العظيم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إنه لا يركن إلى الدنيا لحظة من نهار. إنها بالنسبة له، قد أدبرت وآذنت بوداع فلماذا إذن يعطيها ولاءه وبلاءه؟ إن الآخرة عند الإمام هي الدار هي الأبد وما أهل الدنيا في شتى العصور والدهور إلا سائرون فوق جسر كلما انتهى من عبوره قوم وجدوا أنفسهم أمام الأبدية حيث الجنة، أو النار. ألا فلنصغ لحديثه: إن المضمار اليوم، وغدا السباق.. ألا وإنكم في أيام أمل، من ورائه أجل.. فمن قصر في أمله قبل حضور أجله فقد خاب علمه.. ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعلمون له في الرهبة.. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ولم أر كالنار نام هاربها. ألا وإن من لم ينفعه الحق، ضره الباطل.. ومن لم يستقم به الهدى، حاد به الضلال. ألا وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر.. وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر.. وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.. فإن اتباع الهوى، يصد عن الحق.. وإن طول الأمل، ينسي الآخرة.
فلتأت الأحداث والأهوال عاصفة، تقتلع الجبال من حول الأمام، فإنه لن يتبع الهوى أبدا. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق. ولتبذل الدنيا له كل نفسها وزينتها ، وبهجتها، وإغرائها، فإنه لن يربطها به أمل ولا رجاء. فإن طول الأمل، ينسي الآخرة.
وهو رضي الله عنه لا يريد أن يتوه عن الحق، ولا يريد أن ينسى الآخرة. فالحق حياته والآخرة داره.
على أن زهد ابن أبي طالب في الدنيا، وعزوفه عنها ليس زهد الهاربين من تبعات الوجود ومسئوليات الحياة. إنما هو زهد يشكله إسلامه، الذي يجعل المسؤولية العادلة دينا، ويجعل العمل الصالح الدائب عبادة وقربى. وهنا نلتقي ب‍ علي يصحح المعايير والموازين، إذ لا يكاد يسمع رجلا يذم الدنيا مذمة العاجز المتواكل حتى يقول: الدنيا دار صدق، لمن صدقها ودار نجاة، لمن فهم عنها، ودار غنى وزاد لمن تزود منها.
مهبط وحي الله.. ومسجد أنبيائه.. ومتجر أوليائه.. ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة. أجل هذه هي دنيا المسلم، كما يفهمها ربيب الوحي، وسابق المسلمين..
دار عمل لا لهو يكدح فيها الانسان لينشئ لنفسه مصيرا سعيدا يوم يقوم الناس لرب العالمين. وهي دار صدق، لمن عاش فيها صادقا مع مسؤولياته وتبعاته ودار نجاة، لمن سار فيها على درب النجاة.
وبهذا الفهم السديد للدنيا، ربحها علي وربح بها مصيره وأخراه. فهي بالنسبة له، لم تكن دار لعب ولهو أبدا. منذ طفولته الباكرة، حمل الإسلام في قلبه. وحمل معه كل أعباء الرجال. ولقد قطع حياته وقضى أيامه على الأرض في كفاح موصول، ونضال لم يعرف الراحة يوما. وعاش كما وصفه الرسول عليه السلام: مخشوشن في سبيل الله.
مقت الترف من كل نفسه، ونأى عنه بكل قوته وعزمه. ذلك أنه فهم الإسلام وعاشه، وتعلم منه أن الترف مشغلة الفارغين العاطلين. والإنسان الذي يعيش مع مسؤوليات كبار كتلك التي يفرضها الإسلام الحق على أبنائه الحقيقيين وأهله إنما يكون حظه من الصدق والتوفيق مضاهيا حظه من البساطة والتخشن. وهكذا كان الإمام، وهكذا أراد للناس أن يكونوا.
عندما قدم مكة من اليمن ورسول الله يومئذ يحج حجة الوداع، تعجل هو إلى لقاء النبي تاركا جنوده الذين عادوا معه على مشارف مكة بعد أن أمر عليهم أحدهم.
وبدا لهذا الأمير المستخلف أن يلبس الجند حللا زاهية من تلك التي عادوا بها من اليمن، حتى يدخلوا مكة وهم في زينتهم يسر منظرهم الأعين. وأمرهم، فأخرجوا من أوعيتهم حللا جديدة ارتدوها، واستأنفوا سيرهم إلى مكة. وعاد علي بعد لقاء الرسول، ليصحب جنده القادمين وعلى أبواب مكة رآهم مقبلين في حللهم الزاهية.
وأسرع نحوهم، وسأل أميرهم: ويلك ما هذا؟ قال: لقد كسوت الجند ليتجملوا إذا قدموا على إخوانهم في مكة. وصاح به علي: ويلك انزع قبل أن تنتهي بهم إلى رسول الله. فخلعوا حللهم جميعا، وكظموا في أنفسهم مرارة بما صنع بهم علي الورع، الزاهد، الأواب.. ولما دخلوا مكة، ولقوا الرسول، شكا إليهم بعضهم عليا، وقصوا
(٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 3 4 5 6 6 6 6 17 18 19 20 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686