شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٦

وإنه سابق المسلمين، ألم يسمع القرآن يتساءل في هدير ورهبة: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) بأي حديث.
إن الفتى الأواب ليرتجف من هول التساؤل، وجلال الخطاب ويجيب في صيحة مكظومة: لا بحديث غير حديثك نؤمن، يا رب كل شئ. ومن هذه الآية، ومثلها معها من آيات القرآن العظيم، أشرب قلب علي ولاء للقرآن ليس له نظير.
ألم يسمع القرآن يحدد للرسول طريقه المستقيم فيقول: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).
إنه أيضا من هذه الآية، ومثلها من آيات القرآن وتعاليم السماء، ليستمد عزما خارقا على أن يسير فوق صراط الحق بخطى ثابتة راسخة أكيدة، متخطيا أهواء الذين لا يعلمون في استقامة قديس، وشموخ مقتدر. لك الله أبا الحسن أكنت تدري، أي معارك ضارية ستخوضها غدا ضد أهواء الذين لا يعلمون؟
من ولائه الوثيق للقرآن، وشهوده فجر الوحي وضحاه كان علي ربيب الوحي.
ومن ولائه الوثيق للإسلام، وسبقه إليه قبل غيره من رجال العالمين كان علي سابق المسلمين. وسابق المسلمين لقب لا يستحقه علي لمجرد سبقه إلى الإسلام. فعلي، هو الذي علم الناس فيما بعد، أنه: ليس الطريق لمن سبق بل لمن صدق. إنما يستحقه لأنه حاز كلتا الحسنيين: السبق والصدق.
وحين نتتبع مظاهر إسلامه نرى عجبا وحين نستقبل شمائل إيمانه، نستقبل روضات يانعات نتأنق فيهن، ويثملنا عبيرها، وطهرها وتقاها.
والآن، ما بالكم برجل اختاره الرسول من بين أصحابه جميعا: ليكون في يوم المؤاخاة أخاه؟ وكيف كانت أبعاد إيمانه وأعماقه، حتى آثره الرسول بهذه المكرمة والمزية؟
عندما تمت هجرة النبي والمسلمين إلى المدينة، آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار وجعل لكل أنصاري أخا من المهاجرين حتى إذا فرغ عليه السلام من دمجهم في هذا الإخاء العظيم رنا بصره تلقاء شاب عالي الجبهة، ريان النفس، مشرق الضمير وأشار الرسول إليه، فأقبل عليه، وبين الأبصار المشدودة إلى هذا المشهد الجليل، أجلس النبي عليا إلى جواره، وربت على كتفه، وضمه إليه وهو يقول: وهذا أخي.
لقد كان الصديق أبو بكر، وكان الفاروق عمر آنئذ هناك، فهل من حقنا أن نتساءل:
لماذا لم يختص الرسول أحدهما بهذا الذي اختص به عليا؟ إن تساؤلا كهذا يفسد جلال المشهد ويفوت علينا رواءه والمسلم الذي ينشد الأدب مع رسول الله وأصحابه يحني هامته إجلالا لهذا الرعيل الأول والأسبق من أصحابه على حد سواء.
اختار الرسول إذن عليا ليكون في هذه المؤاخاة أخاه، وكل شرف كان الإسلام يضفيه علي ابن أبي طالب كان يزيد إحساسه بمسئولياته الدينية شحذا، وقوة. ولم يكن في طول الدنيا وعرضها ما يراه ابن أبي طالب كفوا لأن يكون مثوبة على إسلامه وأجرا.
إن الإمام كرم الله وجهه كان يعرف تماما قيمة الذي هداه ربه إليه، وكان من الذين يؤمنون بأن الخير مثوبة نفسه. فالذي يوفق للخير ولحق يكون جاهلا بقيمة الحق والخير، إذا هو طلب من الدنيا مثوبة وأجرا نظير فعله الخير وحمله راية الحق.
وهكذا حمل علي إسلامه بين جنبيه، وتحت ضلوعه، وفي أعماق روحه، ومضى يستصغر شأن الدنيا بكل فنونها وزينتها.
وكلما تراءت له مباهجها سدها بعبارته المأثورة: يا دنيا، إليك عني.. يا دنيا، غري غيري. وعلي في إسلامه، نموذج عظيم مكتمل الشكل والجوهر. فإذا كان الإسلام عبادة، ونسكا جهادا، وبذلا ترفعا وزهدا فطنة وورعا سيادة وتواضعا قوة ورحمة عدالة وفضلا استقامة وعلما بساطة وتمكنا ولاء وفهما.
إذا كان الإسلام ذلك كله، فإن سابق المسلمين عليا كرم الله وجهه كان أحد النماذج الباهرة والنادرة لهذا الإسلام. ومن شاء أن يتعرف إلى حياة الإمام وسلوكه، فليقرأ كلماته ذلك أنه لم يكن بين مقاله وفعاله، تفاوت أو تناقض.
أجل لم يكن بين ما يقول، وما يفعل. بعد ولا مسافة، ولا فراغ.
فإذا حث الناس على الزهد، فلأنه أسبقهم إليه، وإذا حثهم على البذل، فلأنه أقدرهم عليه، وإذا حثهم على طاعة أية طاعة فلأنه يمارسها في أعلى مستوياتها. صلى الفجر يوما بأصحابه في الكوفة، وهو أمير للمؤمنين، فلما فرغ من صلاته جلس سائما جزينا ولبث في مكانه ومجلسه، والناس من حوله يحترمون صمته فلا يتحركون حتى طلعت الشمس، واستقر شعاعها العريض على حائط المسجد من داخل. فنهض الإمام علي وصلى ركعتين ثم هز رأسه في أمي، وقلب يده وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئا يشبههم.. لقد كانوا يصبحون وبين أعينهم آثار ليل باتوا فيه سجدا لله، يتلون كتابه ويتراوحون بين جباههم وأقدامهم..
وإذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح.. وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم.
هذه صورة الماضي العظيم. صورة الأيام الجليلة الرائعة أيام الوحي والرسالة يعيش فيها علي العابد دوما وأبدا ولا يستطيع الزمن مهما توغل في البعد أيامه وأعوامه أن ينتزع الإمام العابد منها، فهي منسكه ومحرابه.
وإنه ليحدث المسلمين عن الإسلام الذي آمن به، وجعله كتاب حياته، فيقول:
تعلموا العلم، تعرفوا به، واعملوا، وكونوا من أهله.. ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أتت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا وإن الزاهدين في الدنيا قد اتخذوا الأرض بساطا، والتراب فراشا، والماء طيبا. ألا وإن من اشتاق إلى الآخرة، سلا عن الشهوات.. ومن أشفق من النار،
(٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1 3 4 5 6 6 6 6 17 18 19 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686