ومن فوائد الجوع خفة المؤونة وإمكان القناعة بقليل من الدنيا، فإن من تخلص من شره البطن لم يفتقر إلى مال كثير فيسقط عنه أكثر هموم الدنيا فيصفو سره ويجلو فكره، فلو لم يكن في الجوع فائدة إلا هذا لكان كافيا في مدحه وكونه محمودا، فإن طلب العلم وحصوله فيه تشبه بأجل صفات الربوبية، وهي العلم الذاتي مع ما فيه من التشريف والتشبيه بآداب الروحانيين، وقد ورد في الخبر:
" أن العلم ليس في السماء فينزل إليكم، ولا في تخوم الأرض فيخرج لكم، ولكن العلم مجبول في قلوبكم، تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم ".
ولذا كان سيد الروحانيين أمير المؤمنين عليه سلام رب العالمين لم يشبع من طعام قط، وكان يجعل خبز شعير يابس مرضوض في جراب ثم يختمه مخافة أن الحسنين (عليهما السلام) يلتانه بزيت أو سمن، وهذا شئ مختص به سلام الله عليه لم يشاركه فيه غيره، ولم ينل أحد بعض درجته، وقل أن يأتدم، فإن فعل فبالملح أو الخل، فإن ترقى فبنبات الأرض، فإن ترقى فبلبن، وكان لا يأكل اللحم إلا قليلا.
فليتشبه به من كان من شيعته، فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والميسور لا يسقط بالمعسور، إذا أمرتم بشئ فأتوا منه بما استطعتم.
ثم أنت خبير بأن هذا الحديث في الحقيقة نهي عن كثرة الأكل والإفراط في التملي بذكر ما يستلزمه من المفسدة، وهي الحرمان عن الحكمة التي هي غذاء الروح وطعام القلب، وأين غذاء البدن من غذاء الروح، وما يستعقبه من الفوائد والفتوح؟ فذكر علة النهي واكتفى بها عنه، ومثله في الأخبار كثير كقوله: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة أو مثال " (1) فإنه نهي عن المذكورات بذكر علته، وهي عدم دخول الملائكة المورث للخير والبركة، فكأنه قال: لا تفرطوا أكلا ولا تملؤوا أجوافكم طعاما فتحرموا الحكمة فتكونوا من أشد الناس يوم القيامة حسرة.
ويشبه أن يكون هذا الذي ذكرناه هو الوجه في كون المؤمن قليل الأكل كما