أن سيفا من سيوف المغول الجانية أودى به فيمن أودى بهم في رحاب نيسابور وسهول إيران لكان استراح. أما الآن فلن يستسلم للقدر الطاغي وسيثور على حكم الزمن الغاشم.
كان الطوسي ذا فكر منظم يعرف كيف يخطط ويدبر. وهو في ذلك آية من الآيات، وقد أدرك أن النصر العسكري على المغول ليس ممكنا أبدا، فقد انحل نظام العالم الإسلامي انحلالا تاما لم يعد معه أمل في تجميع قوة تهاجم المغول وتخرجهم من دياره، وكانت البلاد المحتلة أضعف من أن تفكر في ثورة ناجحة. على أن الغرب الإسلامي كان لا يزال سليما، وكانت مصر هي القوة الوحيدة التي تتجه إليها الأنظار، وقد استطاعت مصر أن تذيق المغول مرارة الهزيمة وأن تردهم عنها، ولكنها لم تكن مستطيعة أكثر من ذلك، فمهاجمة المغول فيما احتلوه من بلاد بعيدة وإخراجهم من تلك البلاد كان فوق طاقة مصر.
وفكر نصير الدين طويلا فأيقن أنه إذا تم للمغول النصر الفكري، بعد النصر العسكري، كان في ذلك القضاء على الإسلام، وها هو يرى بأم عينيه الكتب تحرق والعلماء يقتلون، فماذا يبقى بعد ذلك؟...
لقد استغل حاجة هولاكو إليه، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكي عالم بالنجوم، فعزم على كسب ثقته واحترامه فكان له ما أراد، وصار له من ذلك سبيل لانقاذ أكبر عدد من الكتب وتجميعها، كما استطاع أن ينجي من القتل الكثيرين ممن كانوا سيقتلون.
ولما استتب الأمر لهولاكو خطا نصير الدين خطوته الأولى، وكانت هذه المرة خطوة جبارة فقد أقنعه بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية والتصرف بمواردها بما يراه، فوافق هولاكو. وتتطلع نصير الدين فرأى أن المسلمين كانوا قد وصلوا من الانحلال الفكري إلى حد أصبح العلم عندهم قشورا لا لباب فيها، وأنهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدهما، وحرموا ما عداهما من سائر صنوف المعرفة التي حث عليها الدين العظيم، وانصرفوا عن العلوم العملية انصرافا تاما. فأعلن افتتاح مدارس لكل من الفقه، والحديث، والطب، والفلسفة، وأنه سيتولى الإنفاق على طلاب هذه المدارس، ولكنه سيجعل لكل واحد من دارسي الفلسفة ثلاثة دراهم يوميا، ولكل واحد من دارسي الطب درهمين ولكل واحد من دارسي الفقه درهما، ولكل واحد من دارسي الحديث نصف درهم، فاقبل الناس على معاهد الفلسفة والطب، بعد ما كانت من قبل تدرس سرا.
أحرز نصير الدين النصر الأول في معارك الإسلام، فالعلم لن ينقطع بعد اليوم، ولن يجمد المسلمون عن طلبه، ثم انصرف يخطط للمعركة الكبرى الكاسحة. فإذا كان انشاء المدارس المتفرقة لن يلفت هولاكو إليها، ولن يدرك أهميتها، فإن انشاء الجامعة الكبرى وحشد العلماء فيها وحشر الكتب في خزانتها، سيكون حتما منبها لهولاكو فكيف العمل؟.
هنا تبدو براعة الطوسي، فهولاكو استبقاه لغاية معينة، فراح يقنع هولاكو بأنه من أجل استمراره في عمله والاستفادة من مواهبه لا بد من انشاء مرصد كبير، فوافق هولاكو على انشاء المرصد، وفوض لنصير الدين المباشرة بالعمل.
لقد كانت هذه الموافقة الحلم الأكبر الذي حققته الأيام لنصير الدين، وبات بعدها مستريحا للمستقبل لا يشغله شئ إلا الاعداد الدقيق والتخطيط السليم الموصل إلى الغاية القصوى.
ضخم نصير الدين أمر المرصد لهولاكو وأقنعه أنه وحده أعجز من أن يرفع حجرا فوق حجر في ذاك البناء الشامخ، وأنه لا بد له من مساعدين أكفاء يستند إليهم في مهمته الشاقة، وأنه لا مناص من أجل ذلك من أن يجمع عددا من الناس المختارين، سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها، فوافق هولاكو على ذلك.
وهنا هب نصير الدين إلى اختيار رسول حكيم هو فخر الدين لقمان بن عبد الله المراعي، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلامية، وتأمين العلماء النازحين ودعوتهم للعودة إلى بلادهم، ثم دعوة كل من يراه كفؤا في عمله وعقله من غير النازحين.
مضى العمل منظما دقيقا وانصرف العلماء باشراف الطوسي منفذين مخططا مدروسا، فلم يمض كبير وقت حتى كانت المكتبات تغص بالكتب، وحتى كانت مكتبة مراغة بالذات تضم مجموعة قل أن اجتمع مثلها في مكتبة أخرى، وحتى كانت المدارس تقام في كل مكان، وحتى كانت الثقافة الإسلامية تعود حية سوية، وحتى كانت النفوس مشبعة بالأمل والقلوب مليئة بالرجاء، وحتى كان الدعاة ينطلقون في كل صوب والهداة ينتشرون على كل وجهة...
ثم يموت هولاكو، ولكن الإسلام الذي أراد له هولاكو الموت يظل صحيح البنية، متوهج الفكر، ثم يموت ابن هولاكو وخليفته (ابقاخان) والإسلام لا يزال بقيادة الطوسي صامدا، يقاتل ويقاوم ويدعو ويهدي.
ويأتي بعد ابقاخان، ابن هولاكو الآخر (تكودار) فإذا بالإسلام ينفذ إلى قلبه وعقله، وإذا به يعلن إسلامه وتسلم الدولة كلها بعد ذلك.
وكان الطوسي قد مات سنة 672 ه (1274 م). مات قرير العين وهو يرى طلائع الظفر مقتحمة الدنيا بموكبها الرائع وبشائر النصر هازجة بأرفع صوت وأعلى نبرة. مات الطوسي مودعا الأمر إلى تلميذه وأقرب المقربين إليه قطب الدين أبو الثناء محمود بن مسعود الشيرازي، فنهض بالعب ء على ما اراده نصير الدين. فلم يجد " تكودار " الذي أصبح اسمه " أحمد تكودار " خيرا من الشيرازي خليفة الطوسي ليكون رسوله إلى العالم العربي والإسلامي.
يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي: " لم يمت نصير الدين إلا بعد أن جدد ما بلي في دولة التتار من العلوم الإسلامية وأحيا ما مات من آمال المسلمين بها ".
إلى أن يقول: "... ان الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقة بردهم عن الشام في موقعة " عين جالوت " وإنما كان بفتح قلوبهم إلى الاسلام وهدايتهم له ".
وهذا ما حققه نصير الدين الطوسي.
هكذا استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية، وأن تنجح خططه في تحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين.