يغطون فيه ويتبرم من السكينة التي تلف الحياة وتكتنفها والتي تحتاج إلى انسام تنعش الروح وتمدها برعشات الفكر المستنير وترفدها بنبض حي قوي ولكن من يحرك مواطنيه ويوقظهم من غفوتهم:
فمن ينبه قومي * ويستثير العزائم ومن يفيق إذا ما * كان المنبه نائم هيهات ينجح شعب * يرى التكاسل حزما ايبصر النور قوم * وقائد القوم أعمى وقد عالج الترجمة، وكانت جل ترجماته لشاعر الهند " طاغور "، كما ترجم قصصا لموباسان.
وهكذا فقد كتب المقالة والقصة والقصيدة ومارس الترجمة وبرغم الظروف القاسية التي مرت به فيما بعد. فلم يتوقف عمله الأدبي عند منتصف الطريق ولم ينغلق ضمن اطار محدود، ولم يصب أسلوبه بالتكرار سواء في مواضيعه أو لغته أو مضامينه.
وكان أسلوبه متميزا في مختلف المواضيع التي طرقها، ويشف عن روح شاعرية سواء في مقالاته أو قصصه أو تراجمه ناهيك عن قصائده، ويتسم بميسم رومانتيكي وينم عن حسن مرهف تجاه الكلمة ووظيفتها الفنية في النص الأدبي.
فأسلوبه النثري ينأى عن العبارات التقريرية الصحفية التي تصوغ الفكرة بشكل مكرر، خال من الروح الفنية، فهو يحلق بالكلمة في دنيا الابداع فتتفتح قوتها الداخلية وتكتسي بظلال شعرية وتتكشف نضارتها وليونتها، وبذلك تنتعش الكلمة مفعمة بعبق الشعر وعذوبته باعثة في النفس الجمال والدف ء والدهشة.
أغنت فترة دراسته في النجف معلوماته وفتحت امكاناته الفكرية والفنية وأبرزت شخصه على مسرح الحياة الاجتماعية والأدبية، وكانت بمثابة الأساس الصلب الذي استند اليه وانطلق منه ليشق طريقه في مجاهل الدنيا ومضاربها، بعد قضاء ما ينيف على اربع عشرة سنة في الدراسة حصل فيها على أعلى ما يحصل عليه طالب من الإجازات العلمية.
ولقد كانت النجف في تلك الآونة مركزا للاشعاع الفكري، فقد ازدهرت فيها الحياة الثقافية وشهدت صدور العديد من الجرائد والمجلات مثل (الهاتف) و (الحضارة) و (البيان) و (الغري) وغيرها، ورفدت العراق برعيل من المؤلفين و الأدباء والشعراء والسياسيين والأساتذة نذكر منهم على سبيل المثال:
الشيخ محمد رضا الشبيبي واخاه الشيخ باقر والجواهري والشرقي والخليلي وسعد صالح.
سنة 1936 م كانت حاسمة في حياة محمد شرارة فبعد أن بلغ ما بلغ في دراسته النجفية قرر السير في طريق جديد، وكان قد تجنس بالجنسية العراقية فعين في وزارة المعارف أستاذا للأدب العربي في ثانويات العراق فتنقل بين الناصرية وكربلا وأربيل والحلة حتى استقر به المقام في بغداد في أواسط عشر الأربعين. ولم تنقطع صلته بالحياة الثقافية بالنجف واستمر ينشر في مجلتي الحضارة والهاتف ويساهم في معالجة المشاكل الفكرية والأدبية. (1) وفي العام 1948 بدأت الانتفاضات الشعبية على الوضع القائم، وكانت له مشاركات فعالة في ذلك فاعتقل في كانون الثاني 1949 وظل معتقلا زهاء الشهرين ثم فصل من وظيفته وحاول في هذه الفترة المساهمة في بعض الأعمال التجارية، ولكنه لم يخلق لذلك، وحسب الناس كلهم مثله أمانة واخلاصا فاختلسه شركاؤه وسعى إلى أن وجد عملا في احدى المدارس الأهلية وفي العام 1952 م قامت المظاهرات وأعلنت الاحكام العرفية فكان محمد شرارة فيمن اعتقلوا وقدموا إلى المحاكمة فحكم عليه بالسجن سنة واحدة. وبعد انقضائها كان مجال العمل أمامه في العراق معدوما فذهب إلى لبنان سنة 1954 وقام بالتدريس في احدى المدارس الأهلية وظل يواصل الكتابة والنشر حتى العام 1958 حين قامت حركة 14 تموز فعاد إلى العراق وأعيدت إليه حقوقه في مجال عمله وعاد إلى التدريس والكتابة ولكن الحكم الذي تلا 14 تموز لم يكن هو الحكم الذي كان يطمح إليه محمد شرارة وغيره من المخلصين، فلم يلبث أن قبض عليه وحكم بالسجن ثلاثة أشهر. فكان ان عاد العام 1961 إلى لبنان. وفي العام 1962 دعي لتدريس اللغة العربية في جامعة بكين في الصين، وعند ما وصل إلى بكين تبين له ان عمله سيكون الترجمة في مجلة (بناء الصين)، فلم يلبث في هذا العمل سوى بضعة شهور حيث كان لا يرتضي ترجمة بعض المواضيع الذي كان يرى أنها لا تتفق مع تفكيره فترك عمله وسافر إلى الاتحاد السوفيتي في مطلع العام 1963 وكان يتوقع ان يجد عملا تدريسيا هناك فلم يتيسر له ذلك فسافر إلى لبنان وبقي فيه حتى العام 1968 مارس خلال ذلك التدريس والكتابة والترجمة ونظم الشعر، ثم عاد إلى العراق وظل فيه حتى السنة 1974 حيث عاد إلى لبنان وسكن في بلدته الأولى بنت جبيل، ولكن قيام احداث سنة 1975 في لبنان اضطرته إلى العودة إلى العراق صيف سنة 1976 وهناك توفرت له أسباب الكتابة والمطالعة بعد أن كانت قد خفت عنه الأعباء العائلية بتخرج أبنائه وبناته من الجامعات وشقهم طرقهم بنجاح في الحياة العامة، فاحتضنته ابنته الدكتورة حياة حتى وفاته، حيث عاش عندها ثلاث سنوات اخرج فيها - كما يعتقد هو - خير مقالاته.
كان كما قيل عنه بحق: " كان محمد شرارة عالما كاملا من العطاء والمعارف والمعلومات والصلابة الفكرية والثبات في الشدائد والنقاء الروحي و الخلقي، لقد توارى ذلك العالم وانطوى من الوجود ولكنه أبقى لنا عالمه الأدبي الذي بناه وشيده لبنة لبنة على مدى نصف قرن ". (2) وبعد وفاته أخرجت له ابنته الدكتورة حياة كتابه (المتنبي بين البطولة والاغتراب) كما جمعت بعض مقالاته في كتاب أسمته (نظرات في تراثنا القومي). كما جمعت له ديوانا شعريا لم ندر إن كان قد طبع بعد ذلك أم لا.
وكان قد كتب مقالاته تحت عناوين شتى منها: " من صور الحياة " " نهلات طائر " " صور واخلاق " " في الأدب والحياة " " مع العرب في الجوانب العليا من الأخلاق " " نساء ومواقف " " نظرات في تراثنا القومي " " من تراثنا الشعري " " الكلمة و البناء الشعري ". وكان يزمع إصدار كتب تحت بعض هذه العناوين مثل " نساء و مواقف " و " تأملات في الأدب والحياة "، ولكنه لم يستطع تحقيق ما يصبو إليه، وأتم فقط كتابه عن المتنبي.
شعره ما ننشره له هنا من الشعر هو ما اطلعنا عليه منشورا في أوقات متباعدة في مجلة العرفان: