أشار إليه الجمالي من أمر السلاح. ولكن حماقة نائب رئيس الوزراء جلال بابان لم تراع فنشر المعاهدة عند استلامه لها في الصحف.
ومع ذلك فقد كان على الناس درس نصوصها قبل الثورة عليها، ولكن الذي حدث أنه بمجرد نشر النصوص وقبل أن تطرح تلك النصوص للدرس والتحقق من صلاحها أو فسادها، هب الغوغائيون لإهاجة الشارع وإثارة الطلاب، وتعمد من تعمد الاصطدام بالشرطة الموافقة للمظاهرات فحدثت الإصابات وسالت الدماء وعاد الأمر فوضى لا حدود لها ما حمل الوصي عبد الإله على إعلان إلغاء المعاهدة وعدم قبولها تسكينا للهياج وإخمادا للفتنة.
وذلك قبل عودة الوفد العراقي العاقد للمعاهدة. وقد كان وراء إثارة تلك الغوغائية الشارعية عوامل أهمها: أنه لم يكن خافيا على الصهاينة في لندن ما وراء إبرام المعاهدة من شر لهم، فإن لهم عيونهم التي ترصد الخوافي، فتسرب إليهم ما تعاقد عليه (بيفن) مع الوفد العراقي فأوعزوا إلى يهود بغداد بتدبير أمر الفتنة، وقد كانت لهم وسائلهم التي تمكنهم من إثارتها.
فقد كنت يومذاك في بغداد، ولم نكن على علم فما خفي من أمر المعاهدة، فكانت تحدث أمور كنا نحار في تفسيرها. فبينما كانت المظاهرة الصاخبة تمشي في شارع الرشيد في بغداد تواكبها الشرطة دون أن تتعرض لها، وكان الأمر يمضي سلميا لا صدام بين المتظاهرين والشرطة. وبوصول المتظاهرين إلى محاذاة جامع مرجان إنهال الرصاص من الشرفات على السائرين في الشارع فأصاب بعضه الشرطة وأصاب بعضه المتظاهرين. فظن المتظاهرون أن الشرطة تطلق عليهم الرصاص وظنت الشرطة أن المتظاهرين يطلقون عليها الرصاص، فكان ذلك مفتاح الصدام الدموي، وتحوي المظاهرات إلى معارك بين الناس والشرطة ثم الجيش. وأفلت الزمام وعمت الفوضى وخيف ما هو أبعد من ذلك، فكان أن ارتأى من ارتأى إعلان إبطال المعاهدة تسكينا للهوجة الهائجة باسم المعاهدة.
وبالفعل فقد هدأت الحال، فلم يرق هذا الهدوء لمن هم وراء ما جرى، فكانوا يريدون استمرار الفوضى حتى عودة الوفد من لندن ليواجهوه بالاضطراب العنيف الدائم الذي لا يمسكه شئ، خوفا من أن يعقل الناس ما وراء المعاهدة من التسلح فيهدأوا.
وكانت الاصطدامات قد أعقبت قتلى نقلوا وهم جرحى إلى المستشفيات، فعندما كان يموت أحدهم كانت تنطلق السيارات الكبيرة من شاحنات وحافلات في الشوارع والأحياء لا سيما حيث تكون تجمعات، فينادي من في الشاحنات والحافلات بأن شهيدا في المستشفى الفلاني قد توفي فمن شاء الاشتراك في تشييع جنازته فهذه السيارات حاضرة لنقله، فيسرع الناس إلى السيارات فتمتلئ بهم ليتجمعوا أمام المستشفى بعشرات الألوف فيتألف منهم موكب حاشد حاقد ثائر للدماء المراقة، مثار بما يلقى على مسامعه من هتافات ثأرية دموية. وهكذا تظل مظاهرات الحقد والنقمة والثورة متمادية لا تنقطع.
وكنا عندما كانت تصل هذه الأنباء كنا نتساءل عمن ينفق الأموال الطائلة على تلك السيارات، ومن هي الجهة المحركة لكل ما يجري. ولم يكن في أذهاننا شئ عما وراء عقد المعاهدة من أبعاد.
وقد رابنا ما أنبأنا به بعض العارفين من أن يهوديا يعرفهم كانوا يتحركون تحركات مريبة لم يستطع تفسيرها.
ومما ساعد على الهياج تعمد من تعمد إفشال تجربة مجئ رئيس وزراء شيعي (صالح جبر) لأول مرة. فكان في إفشال المعاهدة إفشال له شخصيا وإفشال للخروج على التقليد الطائفي السابق الذي لم يجئ فيه رئيس شيعي للوزارة.
ولو قدر لهذا الفريق ذي اللون الطائفي معرفة ما وراء عقد المعاهدة، لأحجم عن الإقدام على ما أقدم عليه ولتغلبت وطنيته على طائفيته.
كذلك كان لدعاة الاتحاد السوفيتي مشاركة فعالة في تحريك الهياج.
وهكذا اجتمعت على إفشال المعاهدة عناصر متناقضة، متباعدة في أهدافها وغاياتها فكان ما كان...
أما عداء بيفن وزير الخارجية البريطاني يومذاك لليهود إلى حد أن سموه هتلر الثاني فقد كان واضحا. وهو الذي قال للزعيم الصهيوني ناحوم غولدمان: " لقد قرأت التوراة ولم أجد فيها ما يشير إلى حق اليهود في امتلاك فلسطين ".
وننشر هنا مقطعا من مقال نشره الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في جريدة النهار ثم نشره مع غيره في كتاب له:
توحي القراءة الأول للوثائق البريطانية عام 1946 أن الحكومة البريطانية بزعامة كليمنت آتلي رئيس الوزراء العمالي، كانت ترى في شأن فلسطين رأيا يختلف نوعا ما عما ذهبت إليه حكومة المحافظين بزعامة ونستون تشرشل رئيس الوزراء السابق الذي اشتهرت عنه صهيونيته الجامحة.
لكن القراءة الثانية المتأنية لهذه الوثائق تظهر أن الحقيقة كانت أكثر تعقيدا من ذلك، لأن التأثير الصهيوني كان نافذا إلى قاعدة حزب العمال بأكثر من نفاذه في قمة حزب المحافظين (في ما عدا ونستون تشرشل شخصيا).
وربما بدا أن سياسة أرنست بيفن وزير الخارجية العمالي القوي تأخذ منحى مغايرا، لكنه في الحقيقة كان طريقا آخر إلى الهدف عينه.
والحاصل أنه كانت أمام بيفن اعتبارات عدة تظهر واضحة في تصرفاته:
1 - وزير الخارجية البريطاني الجديد يريد قبل الحسم في فلسطين أن يصل إلى تسوية لأوضاع البلدان العربية المحيطة بها، وهي بالتحديد الأردن والعراق ومصر وكلها بدرجة أو بأخرى تحت النفوذ البريطاني وفق ترتيبات أبرمت قبل الحماية.
- شرق الأردن منذ تنصيب عبد الله أميرا عليه عام 1922 تحت الحماية.
- والعراق مرتبط بمعاهدة عام 1930 وهي علاقة أكثر تقدما بمسافة قصيرة من الحماية.
- ومصر ضيقة الصدر بمعاهدة عام 1936 التي أصبحت " غير ذات موضوع "، على حد تعبير أحد وزراء خارجيتها في ذلك الوقت وهو أحمد لطفي السيد باشا.
وكان تقدير بيفن أن يبدأ بالأسهل وينتهي بالأصعب في شأن هذه البلدان الثلاثة قبل البت النهائي لموضوع الدولة اليهودية في فلسطين. وفي ظنه أن الدولة اليهودية إذا نشأت قبل تسوية العلاقات مع شرق الأردن والعراق ومصر، فإن المشكلة الفلسطينية سوف تتداخل بما هو أوسع منها، ومن ثم تجعل المفاوضات المنتظرة مع هذه البلدان الثلاثة مشكلة عويصة بالاتصال والتشابك.
2 - وكان أرنست بيفن يريد تفادي خطر آخر رآه مقبلا، وهو أن الولايات المتحدة الأميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط بطريق الاقتحام تقريبا. وهذا يضع الحكومة البريطانية العمالية في صورة تبدو معها كأنها مستسلمة لمقادير أمريكية، فإذا حاولت أن تعترض فإن الاعتراض قد يؤثر على العلاقات الخاصة بين البلدين، وهو أمر لا تتحمله بريطانيا التي خرجت من الحرب طامعة في مساعدات أمريكية تعوض أعباءها.