ومن المفارقات أن تكون شفاعة محمد الخامس هي التي أنقذت رأسه من حكم الإعدام وخمس وخمسين سنة سجنا أصدرته محكمة " المهداوي " عام 1958.
ومن المفارقات أن تكون مساعيه لوحدة سورية والعراق إحدى تهم الادعاء العام " الجمهوري " ضده.
كان الجمالي واضحا في فكره السياسي " أنا عراقي، أنا عربي، أنا مسلم "، العبارات التي لخص الدكتور الجمالي بها هويته الفكرية والسياسية التي لا يزال صداها في ذاكرتي من آخر حديث لي معه في لندن صيف 1996.
كان الجمالي مدركا أن العراق الحديث، الذي هو ثمرة وحدة ولايات البصرة وبغداد والموصل العثمانية سابقا، بحاجة إلى دعم دولي للوقوف على قدميه من ناحية وحماية كيانه من جيران طالما كانت أرض العراق ميدانا لحروبهم وغزواتهم. ويقول بوضوح أنه لولا التحالف مع بريطانيا لما تمتع العراق بحال من الاستقرار دامت حوالي أربعة عقود تم فيها رسم حدود البلاد مع معظم جيرانه، كما كان له الفضل في تفرغ العراق للبناء حتى أصبح على رأس دول العالم الثالث المرشحة للانتماء للعالم الأول.
وعند اشتداد الحرب الباردة كان خياره واضحا وصريحا بالانحياز إلى الغرب. وفي هذا كان صريحا في اجتماعات باندونع ومحادثاته مع جمال عبد الناصر. ورغم اختلافه مع عبد الناصر إلا أنه كان ضد التورط في صراع بين البلدين، ووقف علنا في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ويبدو أن هذه الوقفة كانت وراء برقية جمال عبد الناصر لعبد الكريم قاسم قائد ثورة تموز (يوليو) 1958 يرجو فيها عدم تنفيذ حكم الإعدام بالجمالي.
ولكن طالما ظلم الجمالي من جيل الأربعينات والخمسينات، وكاتب هذه السطور أحدهم، عندما اعتبرنا اجتهاده خيانة واختلافه جريمة، فكتب الدكتور الجمالي أخيرا في هذا الشأن يقول: " علاقتي بالولايات المتحدة هي علاقة ثقافية وصداقة عمرها 73 سنة، وعلاقتي بالسياسة الخارجية الأميركية علاقة الصديق مع الصديق، أقترح وأنتقد ولا أسكت إذا اعتدي على أمتي خاصة والإنسانية عامة، وربما كنت العربي النادر الذي يخاطب الأميركان مخاطبة الند للند وليس مخاطبة الضعيف للقوي. شعاري معهم، صديقك من صدقك. لم أسكت على الظلم الذي الذي ألحقوه بالشعب الفلسطيني في انحيازهم المفرط لإسرائيل. كما لم أسكت على المظالم التي أوقعوها على الشعب العراقي وأنا أنتقدهم دفاعا عن حقي وحفظا لسمعتهم وكرامتهم ومصالحهم في الشوط البعيد، فالولايات المتحدة دولة عظمى ليس بقوتها العسكرية وثروتها فحسب بل بمبادئها السامية التي ترفع بالإنسانية ".
وإذا كان الجمالي في خريف عمره يعاني من الخيبة من السياسة الخارجية الأميركية، فإن خيبته من الأطروحات والممارسات القومية العربية لم تكن أقل... فقد كتب في سنوات الغربة أخيرا يقول: " أنه مما يؤلم القومي العربي أشد الألم أن يرى أنه مضطر إلى أن يتوقف ثماني مرات في سفره بين عمان وبيروت في العهد الوطني بعد أن كان يمر بسهولة في أيام الاحتلال الأجنبي ".
إن البعد الآخر لثقافة الجمالي، بعد إسلامية مدارس الخالصي وقومية الجامعة الأمريكية في بيروت، هو نزعته التربوية التي تلقنها على يد أبرز التربويين، جون ديوي في جامعة كولومبيا، فمارس التعليم في البداية قبل الانتقال لعالم السياسية الأمر الذي ترك بصماته على مواقفه وتصريحاته، فطالما اختلط المربي بالسياسي، فكتب يقول تحت عنوان دور التربية والتعليم في تجديد بناء الأمة أن " العروبة أخلاق قبل كل شئ، ولكن كيف حال أخلاق العرب اليوم؟ لننظر إليها، ألا نشاهد ضعفا في الأمانة وزيادة في الخيانة...
هل لدينا مناعة ضد التجسس وخدمة النفوذ الأجنبي أما أن هناك من يبيع الوطن بدريهمات معدودات؟ ".
وطالما كرس جهده في تشخيص أمراض المجتمع العربي، فكان داعية للتسامح الديني والرافض للطائفية حيث قال: " وليس أدل على أن الطائفية ليست من الدين من قوله تعالى في القرآن الكريم: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ)، و " من المؤسف أن بعض البلاد العربية مني بحياة سياسية مؤسسة على أسس طائفية فيجب أن ينشأ الجيل الجديد تنشئة تقوم على القضاة على هذه الأحوال وأن يعرف جيدا بأن الفرص المتساوية والأخوة القومية والشعور الإنساني العام هي جوهر الدين وليست الطائفية من الدين في شئ ".
أما على الصعيد العراقي فقد لخص الجمالي رؤيته في كتاب نشر في بيروت عام 1969 تحت عنوان " رسالة مفتوحة إلى الشعب العراقي الكريم " تبقى إلى اليوم مرجعا علميا في تشخيص علل العراق وسبل خلاصه انطلاقا من ضرورة الوحدة الوطنية القائمة على الانتماء والولاء العراق أولا.
سألت الجمالي مرة، لماذا لم تفكر في إنشاء حزب سياسي عراقي إبان العهد الملكي، فكان جوابه صريحا إلى حد المرارة: لو كان هناك عشرة أشخاص مستعدين للتعاون المتكافئ لشكلت الحزب.
لم يزر الجمالي العراق منذ غادره عام 1961 بعد قضاء ثلاث سنوات في السجن ليستقر ضيفا على تونس التي أولته كل الرعاية وأصبح أحد الأعلام الثقافية هناك وسمي أحد شوارع العاصمة باسمه.
وهكذا وجد العرفان من هذا البلد الكريم في وقت بخل عليه العراق والعراقيون بما هو حق له (انتهى).
وكتب عنه فؤاد التكرلي ما يلي:
التقيته لقاء عابرا قبل أسبوعين من وفاته، في معرض تونس الدولي للكتاب الخامس عشر. كنت واقفا مع صحب في الجناح العراقي حين رأيته يسير بتثاقل في الممر متجها نحونا، يستعين بعصاه وبصديق يسنده برفق. كان مستبشرا، في بدلة بيضاء، يرد على محييه بابتسامته المميزة وبهزات من رأسه الأشيب. رحبنا به وبدا عليه انجذاب غريب نحو الكتب المسجاة أمامه على الطاولة، فانحنى متشبثا بعصاه وقرب عينيه من الصفحات، محاولا أن يتبين جيدا عناوينها. كان ذلك منظرا فريدا من إنسان يحمل أعباء زمن ثقيل، ولا تفارقه روح المحبة للقراءة والاطلاع.
طرق اسمه سمعي أول مرة في أوائل الأربعينات من هذا القرن، حين كنت، في بداية فترة المراهقة، اهتم بالأدب فقيل لي إن رواية ذنون أيوب (الدكتور إبراهيم) مستوحاة من شخصية موظف كبير في وزارة المعارف يدعى الدكتور محمد فاضل الجمالي، تسبب في إزعاج المؤلف حين نقله من بغداد إلى مدينة أخرى، ففقد ذلك العمل الأدبي الكثير من قيمته في نظري لاعتقادي آنذاك أنه كان مسخرا لخدمة عرض شخصي لا علاقة له بالآخرين.
ثم كان أن جمعتنا صدفة عجيبة في سنة 1947 ففي نسيان (إبريل) من تلك السنة أقيم احتفال الكليات الرياضي بحضور رجالات الحكم، وكنت مشتركا فيه عن كلية الحقوق، وحدث أن فزت بجائزة القفز العالي، فالتقطت لنا الصور ونحن نتسلم الميداليات من يد الوصي عبد الإله، وحينما رأيت الصورة التي أظهر فيها مصافحا الوصي وجدت أن الواقف بجانبه كان وزيرا